للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وعلم اللّه بالأشياء وآثارها لا ينافي ما علّقها عليه من الأسباب، كما أخبر أن: "ما منكم من أحد إِلَّا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار" (١)، ومع ذلك قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (٢)، ولأن من أخبره أنه ينتصر على عدوه لا يمنع أن يأخذ أسبابه ولا من أخبره أنه يكون له ولد لا يمنع أن يتزوج أو يتسرى. وكذا من أخبره بالمغفرة أو الجنة لا يمنع أن يأخذ بسبب ذلك مريدًا للآخرة وساعيًا لها سعيها.

ومن كرر التوبة مرات واسترسل في الذنوب وتعلق بهذا الحديث كان مخدوعًا مغرورًا من وجهين:

أحدها: ظنه أن الحديث عام في حقِّ كل تائب، وإنما هو حكاية حال، فيدل على أنَّ مِن عباد اللّه من هو كذلك.

والثاني: أن هذا لا يقتضي أن يغفر له بدون أسباب المغفرة كما قدمنا.

ومن كرر التوبة المذكورة والعود للذنب لا يُجزم له أنه قد دخل في معنى هذا الحديث، وأنه قد يعمل بعد ذلك ما شاء، لا يُرجى له أن يكون من أهل الوعد، ولا يُجزم لمعينٍ بهذا الحكم، كما لا يُجزم في حق معين بالوعيد كسائر نصوص الوعد والوعيد؛ فإن هذا كقوله: من فعل كذا دخل الجنة ومن فعل كذا دخل النار، لا يجزم لمعين.

والحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفِّر الكبائر؛ كالحديث الذي في صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلًا كل سجل منها مد البصر، ويؤتى ببطاقة فيها كلمة: لا إله إِلَّا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات، وذلك لعظم ما في قلبه من الإيمان واليقين، وإلا فلو كان كل من نطق بهذه الكلمة تكفَّر خطاياه لم يدخل النار من أهل الكبائر المؤمنين؛ بل والمنافقين أحد، وهذا خلاف ما تواترت به الآيات والسنن.


(١) رواه البخاري (٤٩٤٥).
(٢) رواه البخاري (٤٩٤٩)، ومسلم (٢٦٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>