وكذلك كانت اليهُودُ يتعاطَسُونَ عند رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لعلَّه يقول: يَرْحَمُكمُ اللهُ. فيقول:" يَهْدِيكُمُ الله ويُصْلحُ بَالَكُم "(١). وهذا منه -عليه السلام- حِرْصٌ على رِعايةِ ما آتاهُ اللهُ من الخُلُقِ العظيمِ، لَما حُرِّمَ عليه لفظُ التَّشميت المعتاد، وكان الدعاء للعاطس معتاداً، لم يستحسِنْ ترك الدُّعاء لهم في الموضعِ الذي يُعْتَادُ فيه الدُّعاء. فاحتال -عليه السلام- فَعَدَل إلى دعاء آخر يَجْبُرُ بذلك قلوبَ أشدَّ النَّاس عداوةً له وللمؤمنين، ويُخالِقُ مَنْ يَكتُمُ ما عنده في التوراة من ذكره، ومن يَسْخَرُ منه ويستهزيءُ به. هذا -والله- هو الخُلُقُ العظيم، فنسألُ الله أن يهدينا لاتباعه، والتأسي به في أحواله.
فجديرٌ بمَنِ انتصب في مَنْصِب الفُتيا، أو تَرَقَّى إلى مرتبة التدريس، وتَمكَّن في دَسْت التَّعليم، وتهيأ للرد على الجاهلين، والدُّعاء إلى سبيل ربِّ العالمين: أن يكون مقتفياً لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عامِلاً بما قال الله -تعالى- من الدُّعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان يُمْكِنُ للسَّيِّد -أيَّدهُ الله- أن يجعل عوَضَ التنفير عن الاجتهاد غاية التنفير، والتعسير لمناهجه والتَّوعير: أن يحُثَّ على الصبر على طلب فوائدِه، وتَقْييدِ شواردِهِ.
التنبيه الثامن: أن " السَّيِّد " -أيَّده الله- يعلمُ أن الاجتهاد مِن فروض الكفايات، وأن الفَرض لا بُدَّ أن يكون من المقدورات، وأن الصدَّ عن
(١) أخرجه من حديث أبي موسى الأشعري البخاريُّ في " الأدب المفرد " (٩٤٠) وأبو داود (٥٠٣٨) والترمذي (٢٧٣٩) والطحاوي في شرح معاني الآثار ٤/ ٣٠٢، وابن السني في " عمل اليوم واللية " (٤٥٦) وإسناده صحيح، وصححه الترمذي، والحاكم ٤/ ٢٦٨، ووافقه الذهبي.