الوجه الثالث: أنَّ قوله: {لا يعقِلون} ليس على ظاهره لِوجهين:
أحدهُما: أنهم مكلفون، وشرط التكليف العقلُ.
الثاني: أنَّه -سبحانه- أجلُّ من أن يَذُمَّ ما لا يَعْقِلُ، كما لا يَصِحُّ نزولُ آيةٍ في ذَمِّ الأنعامِ بعدم العقل، إذ من لا عقلَ له، فلا ذنب له في عدم العقل. إذا ثبت ذلك، فالمراد ذمُّهم بالجفاوة، وعدم التمييز للعوائد الحميدة، وآداب أهل الحياءِ والمروءة وهذا ليس من الجرح في شيء، فإنَّ لطفَ الأخلاق، والكيْسَ في الأمور، ليس مِن شرط الراوي. ومبنى الرِّواية على ظنِّ الصِّدق كما قَدّمناه، وأولئك الأعرابُ -لا سيَّما ذلك الزمان- كانوا من أبعدِ النَّاسِ عن الكذب، والظنُّ لصدقهم قويٌّ، لا سيَّما في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بُدَّ -إِن شاء الله- من الإشارة إلى أنه لا داعي للمسلم إلى الكذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في غالب الأحوال، وقد قدمنا الأدلة على أنهم عدول بدخولهم في الإسلام ما لم يَدُلَّ دليل على الجرح.
الوجه الرابع: أنَّ صدور مثلِ هذه القوارع، على جهة التأديب للجاهلين والإيقاظ للغافلين من الله تعالى، أو من رسوله -عليه السلام- لا تدُلُّ على جرح منْ نزلت فيه، أو بسببه ما لم يكن فيها ما يَدُلُّ على فسقه وخروجه من ولاية الله، فقد ينزل شيءٌ من القرآن العظيم، وفيه تقريع لبعض الأنبياء -عليهم السلام- وتأديبٌ لبعض الرسل الكرام، وقد قدَّمنا كلاماً في العدالة، ودللنا عليه، وقد قال الله تعالى لخيار المهاجرين والأنصار:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال: ٦٨] وأنزل اللهُ أولَ سورة الممتحنة في شأن حَاطِبِ بنِ أبي