للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى هذا التفصيل يجوز أن يُحمل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] على المعنى الذي تُعدَّى فيه الإرادة بحرف " من " لأنه لا يتعلَّقُ بأفعال العباد من أقسامها غيره.

وهو حيث يكون بمعنى الطلب بالأمر فيكون المعنى لإرادة أن يعبدوني، لأن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا المصاحبين للأمر، ويكون تسمية المحبة إرادةً حقيقة عرفية أو لغوية كما تقرَّر ذلك من تفسير الزمخشري لها، ودلالة بيت قيس بن الخَطِيم عليه، وهو عربي حُجَّة. وقد تقدم، أو مجازاً كثيراً قريباً يحسن مع أدنى قرينة.

وقد بيَّنَّا أن المحبة عند أهل السنة تلازم الأمر، وتسمى إرادةً، ولا يجب أن تقع من متعلقها ما لم يُرِدِ الله وقوعه لبعض الحِكَمِ التي يستأثر الله بعلمها، ويأتي بيان بعضها.

فجاز على أصول أهل السنة، وصحَّ أن يكون التقدير ما خلقتهم إلاَّ لإرادة أن يعبدوني، أي: محبته لهم، لأنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحبه مطلقاً كما تقدم، ولا يُريده لهم ديناً وشرعاً يتقرَّبون به إليه عز وجل.

والعجب من المعتزلة أنهم يُنكرون على أهل السنة تأويلهم هذه الآية على إرادةِ الأمر، ولا يُنكرون على نُفاة الإرادة منهم تأويلها بالأمر، بل كل إرادة من الله تعالى تُعَلَّقُ (١) بأفعال العباد عند البغدادية منهم، فإن معناها الأمر من غيرِ إرادةٍ ألبتة لا للآمرِ، ولا للمأمور به.

وأما من لا يُجيز المحبة على الله من الأشعرية، فإنَّه يتأوَّل الإرادة في هذه الآية بالأمر مثل ما تأولها بذلك بعض المعتزلة مطلقاً، فيكون المعنى عندهم: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ لطلب أن يعبُدوني، لأنَّ " لام كي " تُستعمل للطلب كما تستعمل للغرض.


(١) ساقطة من (أ).

<<  <  ج: ص:  >  >>