للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم يرِدْ نصٌّ بتحريم ذلك، لم يوردها موهمةً لقبيح، وبَيَّن أن الله تعالى يكره المعاصي، ولا يريدها إرادة الأمير والطلب والمحبة، وإنما يُريدُ تقديرها لحكمةٍ بالغة استأثر بها، فهو يريدُها من ذلك الوجه الحسن فقط، ويكرهها من الوجه الآخر الذي قَبُحت منه، كما يُريدُ اليمين الواجبة شرعاً وإن كان الحالف فاجراً فيها مع قُبحها، بل مع كونها من أكبر الكبائر، لكن إرادتها من الوجه الذي وَجَبَتْ وشُرعت له، لا من الوجه الذي قَبُحت له، وكذلك كل قبيح مقدر كما مر تقريره.

والسر في ذلك أن المرادات كلها قسمان: خيرٌ وشر، فالخير مُرادٌ لنفسه، والشر مُرادٌ لغيره، والخير المراد لنفسه هو الأصل في المرادات كلها، ولذلك لم يصح أن يكون الشر مراداً حتى ترجع إرادته إلى إرادة الخير، فكان الشر غير مرادٍ كألم الحجامة يُراُد من أجل العافية.

ولذلك كان الخير والطاعات هي الغالبة، وكانت الشرورُ والمعاصي هي النادرة، وذلك أنا ننظر إلى جميع المخلوقات من الملائكة، والروح، وجميع أجناس الحيوانات والناميات، ويخلق ما لا تعلمون، ولا عبرة بكثرة العصاة في الجن والإنس لأنهم أقل المخلوقات كما بينتُه في " الإجادة " وغيرها.

وإذا تقرَّر ذلك لم يحسن أن تُطلق العبارة بأن الله سبحانه أرادَ المعاصي، لأنه يوهم أنه تعالى أرادها لكونها معاصي إرادة محبةٍ ورضا وأمر، وإنما يقول: لو شاء لم تكن المعاصي لما له في تقديرها من الحكمة، وما أحسن البيت:

فالخيرُ بالذات مَقْصُودٌ وشرهُمُ ... قضى ولكن لا مِنْ غيرهم شَرٌّ (١)

بل قد مرَّ تصريح أئمة الأشعرية بأن إرادة الله تعالى لأفعال العباد حيث يطلق مجازٌ، وأن ظاهرها خطأ، وتأويلها إرادة أفعاله تعالى التي تعلق بأفعال


(١) ورد البيت في (أ) و (ف):
فالذات مقصود وشرهم قضى ... ولكن لأمرٍ غير شرهم ..

<<  <  ج: ص:  >  >>