النوع الثاني من المُعارضات: فهو أنا نُورِدُ في تأويل تلك الأحاديث نظير ما ورد في تأويل القرآن العظيم من غير أن نكون قائلين بأن ذلك التأويل هو معنى الحديث قطعاً، لأني أختار لنفسي مذهب السلف المقدم وكما سبق موضحاً في الوهم الخامس عشر، ولجواز أن يكون له معنى هو أصحُّ من ذلك، وإنا لقصورنا لم نهتد إليه، وقد بيَّنتُ قصوري عن مرتبة التأويل، وإنما مرادي أُورد مثل كلامهم على وجهٍ يعرف المنصف أن مثله مما لا طريق إلى العلم القطعي بأن أهل تلك التأويلات لو سمعوه، لأجمعوا على أنه باطل.
فأقول: قد انتخب السيد أحاديث من أدقِّ ما وجد، وأنا أتكلَّم على كلِّ حديثٍ منها مستعيناً بالله تعالى:
فالحديث الأول: فقد ثبت أن عُلماء المعاني والبيان والزمخشري ومن لا يُحصى كثرةً قالوا في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر: ٢٢]، وقوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}[البقرة: ٢١٠]، وقوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك}[الأنعام: ١٥٨]، كل هذا قالوا فيه: إن إسناد المجيء والإتيان إلى الله تعالى مجازٌ، وهو من قبيل الإيجاز: أحد علوم المعاني والبيان، وهو حذف بعض الكلام لدلالة القرينة على حذفه، والقرينة الدالة هنا هي القرينة العقلية، وهي أقوى القرائن دلالة، وكان هذا مثل قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ}[يوسف: ٨٢]، أي: أهل القرية، قالوا: المعنى: وجاء أمر ربك أو عذابه، أو نحو ذلك من المقدورات.
فنقول: وكذلك الحديث الذي رواه السيد، وفيه:" فيأتيهمُ اللهُ "، وفي رواية " أتاهم ربُّ العالمينَ "(١)، فيه حذفٌ وتقدير، فيقال: المرادُ أتاهم مَلَكٌ من ربِّ العالمين، أو أتاهم رسول رب العالمين. وقوله: إني ربكم: أي رسلُ
(١) قطعة من حديث أبي هريرة في الرؤية، وقد تقدم تخريجه في الجزء الخامس.