الوجه الثاني: أنَّ الجماهير من العلماء قد أجازوا الرواية بالمعنى، فمن الجائز أن يعتقدَ هذا الراوي في الحديث النَّبويِّ معنىً، فيعبرَ عنه قاطعاً على أنَّ المعنى واحد، وليس كذلك مثل ما جاز عليه ذلك في قوله: هذا منسوخ، أن يعتقد تعارُضَ النصوصِ فيقضي بنسخ المتقدِّم قاطعاً على تعارضها. ومِنْ ها هنا رجَّحُوا روايةَ من لا يستجيزُ الرِّواية بالمعنى على رواية مَن يروي بالمعنى، فلو كان الراوي بالمعنى لا يغْلَطُ قطعاً، لم تكن رواية من يُوجِبُ نقلَ اللفظ النبويِّ أرجحَ منه.
فإن قلتَ: إنَّه يجوز أنَّ القائل بأنَّ هذا منسوخ قال ذلك اجتهاداً، واحتمالُ الاجتهاد يقدَح بخلاف احتمال الوهم.
قلتُ: هذا خلافُ الظاهر، لأنَّ الاجتهادُ الصادِرَ عن القياس، والأمارات الضعيفة، ليس مِن طُرُقِ النسخ، فحملُ الراوي عليه بمنزلةِ حمل الراوي للحديث المرفوع على أنَّه بَنَى الروايةَ للحديث على اجتهاده في أنَّ ذلك هو معنى الحديث النبويِّ، فكما أن ذلك مردودٌ غيرُ مسموع مِن قائله لِبعده، فكذلك هذا.
فإذا عرفت هذا، فكيف ينبغي مِن السَّيِّد إطلاقُ القولِ بضعف هذه المسألة المحتملة مِن غير استدلال، ولا توقُّفٍ، ولا نَظَرٍ، ولا تأمُّل. ولو ذهب ذاهب إلى هذا المذهب، لم يكن خارقاً لإجماع الأُمة، ولا مستحقاً للنَّكِير عند الأئمة.
ثم نقول للسَّيِّد -أيَّده الله-: ما زال أهلُ العلم يتعرَّضُونَ لمعرفة المنسوخ، ويذكرون المجمعَ عليه من ذلك، والمختلفَ فيه، وقد صنَّف غيرُ واحد في معرفة المنسوخ من الأئمة وغيرهم، وحَصَرُوا ما صَحَّ نَسْخُه، وبيَّنوا الدَّلِيلَ على صحة النسخ، والدليلَ على بُطلانِ النسخ في بعض ما