للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مجتهداً، ولا يشتهر اجتهادُه إمَّا لخموله واعتمادِ الناسِ على أشهر منه، وعدمِ

حاجتهم إليه، وإما لرغبته في الخمول وكراهته للفتيا.

الوجه الثاني: أن الظاهرَ خلاف ما ذكر، لأن شرائطَ الاجتهاد كانت مجتمعة في أبي هريرة رضي الله عنه، وقد كان أحفظَ الصحابة على الإطلاق، وأكثَرَهم حديثاًً (١)، وقد ذكر البخاريُّ وغيره أن الرُّواةَ عن أبي هريرة كانوا ثمان مئةِ رجلٍ، وقد ذكرهم علماء الرجال، وذكر المزي في " تهذيبه " (٢) منهم مَنْ روى عنه في الكتب الستة: الصحيحين، والسنن الأربع، فذكر خلقاً كثيراً، وقد بيَّنا أنَّه لم يكن شرطُ الاجتهاد في زمن الصحابة إلاَّ معرفةَ النصوص، لأن المرجع بالعربية، وأصولِ الفقه إلى لسانهم التي فطروا عليها فما الفرق بينَه وبينَ معاذ، وأبي موسى الأشعري، فقد ولاهُما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القضاءَ في اليمن (٣)، وقد روى مالك في " الموطأ " (٤) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال لإِنسان: إنَّك في زمان كثيرٍ فقهاؤه قليل قُرَّاؤُه، تُحفَظُ فيه حدودُ القرآن، وتُضيَّعُ حروفُه، قليل مَنْ يسألُ، كثير من يُعطِي، يُطيلُونَ فيه الصلاةَ، ويَقْصُرونَ فيه الخطبة، يُبْدُونَ أعمالَهم قبلَ أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليلٌ فقهاؤه، كثير قراؤه ... وساق نقيضَ ما تقدم. فدل على ما ذكرته لك، بل على أكثر منه، فإن كثرةَ الفقهاء مع قِلَّةِ القُرَّاء تستلزم بالضرورة فِقه مَنْ لم يقرأ مِن أهل ذلك الزمان لتوفُّر حظِّهم مِن الفهم للمعاني، وسلامةِ فِطَرِههم الصحيحة من تعبيرات المبتدعة، ووضع القوانين الفاسدة. فإذا فَقُهَ مَنْ لم يقرأ منهم فما ظنُّك بأبي هُريرة جليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملازم له؟! وما


(١) انظر " سير أعلام النبلاء " ٢/ ٥٧٩.
(٢) " تهذيب الكمال " ورقة ١٦٥٤.
(٣) تقدم تخريجه في الصفحة ٣٧٨ من الجزء الأول.
(٤) " الموطأ " ١/ ١٧٣، وانظر شرح الزرقاني ١/ ٣٥٣ - ٣٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>