المعتمدينَ على ما يَدْرُسُونهُ من أقوالِهم في العملِ والفتوى أن يَحْفَظُوا كُتُبَ الفروعِ عن ظهورِ قلوبِهم، ولا يَحِلُّ لهم أن يَعْتَمِدُوا في العملِ والفُتيَا على الرُّجُوعِ إلى كُتُبِهِم، لأنّهُ إذا ضَاعَ على أحدِهم كتابُهُ أو سُرِقَ أو نُهبَ أو اغتُصِبَ، لَزِمَ أَنْ يُقالَ: إنَّهُ ضاعَ عليهِ تقليدُه، ونُهِبَ فتواهُ، واغتُصِبَ عليهِ عِلْمُ إمامهِ الذي اختارَهُ للتقليدِ وارتضاهُ، فأصبحَ مسلوبَ التقليدِ، عديمَ الاجتهادِ، يَسْألُ عن ضالَّةِ تَقليدِهِ كُلَّ حاضرٍ وبادٍ.
فإن قلت: إنَّه يُقالُ: سُرِقَ عليه كتابٌ، كما يقولُ ذوو الألبابِ، وعليه أن يَرْجِعَ إلى سائرِ الكتبِ المُصَحّحاتِ، وإلى سائرِ العلماءِ الثقاتِ.
قُلنا: ولنا إن نجيبَ بمثلِ هذا الجوابِ، فَدَعْ عنكَ التَّهويلَ بذكرِ السَّرِقَةِ والاغتصابِ. وكذلك لو صحَّ الاستدلالُ على وجوبِ الواجباتِ بِمُجَرَّدِ التَّجَوُّزِ في العباراتِ، وجبَ غيبُ القرآنِ والسُّنَّة والنحوِ والأدبِ وسائرِ الفنونِ السَّمْعِيَّةِ والعلوم النَّقْلِيَّةِ، لئلا يُقالَ للقارىء في شيءٍ منها إذا سُرِقَ كتابُه أو نُهِبَ أو ضَلَّ أو غُصِبَ: إنَّه سُرِقَ على فلانٍ قراءتُه، وغُصِبَتْ عليه سُنَّتُه، وَنُهِبَ على فلانٍ عِلْمُ النحوِ والأدب، وظُلِمَ نوادر أشعارِ العربِ، ونفائِس الرَّسائلِ والخطب.
النظرُ الثاني: مِن قَبيلِ المعارضةِ أيضاًً، وذلك أنَّ الأمَّة أَجْمَعَت على أنَّه يجبُ على المُجتهدِ أن يَرْجِعَ في طلب الأدلةِ عند حدوثِ الحادثةِ إلى مَنْ في بلدِهِ مِن العلماءِ، فقد قدَّمنا روايةَ المنصورِ باللهِ، وأبي طالبٍ -عليهما السلامُ- عن عليٍّ -عليه السلامُ- أنَّه كانَ يَسْألُ عَمّا لم يَسْمَعْ مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ويَسْتَخْلِفُ مَن يتَّهِم (١).