للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحرمَيْنِ منذ مئةٍ وخمسين مِن الهجرة إلى هذا التاريخِ يزيد على سِتِّ مئة سنة فيهم ألوفٌ لا ينحصِرُون، وعوالم لا يُعَدُّون (١) من أهل العلم والفتوى والورع والتقوى، فكيف نستقرِبُ أنهم تطابَقُوا على الاستناد إلى عامي جاهل لا يعرِفُ أن الباء تجر ما بعدَها، ولا يدري ما يَخْرُجُ من رأسه من حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!

وأما ما قُدِحَ به على الإمام أبي حنيفة مِن عدم العِلْمِ بالعربية، فلا شَكَّ أن هذا كلامُ متحاملٍ متنكِّب عن وجوهِ المحامل، وقد كان الإمامُ أبو حنيفة رحمه الله مِن أهلِ اللسان القويمة، واللغة الفَصيحة، فقد أدركَ زمانَ العرب، وعاصرَ جريراً، والفَرَزْدَق، ورأى أنسَ بن مالك خادمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين (٢)، وقد تُوفِّي أنسٌ رضي الله عنه سنةَ ثلاثٍ وتسعين من الهِجرة، والظاهر أن أبا حنيفة ما رآه في المهد، وإنما رآه بعدَ التمييز، يَدُلُّ عليه أن أبا حنيفة كان مِن المعمَّرِينَ، وتأخرت وفاتُه إلى خمسين ومئة، والظاهر أنه جاوزَ التسعين في العمر والله أعلم. ذكره أبو طالب عليه السلام في كتاب " الأمالي "، وهذا يقتضي أنَّه بلغ الحلْمَ، وأدرك بعدَ موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدر الثمانين سنة، لأنَّه عليه السلام مات وقد مضى عشر من الهجرة، فهذا يدُلُّ على تقدم أبي حنيفة، وإدراكه زمانَ العرب، وهو أقدمُ الأئمة وأكبرهُم سنّاً، فهذا مالك على تقدُّمه توفي بعدَه بنحو ثلاثين سنة. ولا شكَّ أن تغير اللسانِ في ذلك الزمانِ كان يسيراً، وأنه لم يشتغِلْ ذلك الزمانَ بعلم الأدبِ أحدٌ من


(١) في (ج): " لا يعتدون ".
(٢) قال الذهبي في " السير " ٦/ ٣٩١: ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم. وقال في آخر الترجمة: توفي شهيداً مسقياً في سنة خمسين ومئة، وله سبعون سنة.
وقول أبي طالب -الذي نقله عنه ابن الوزير-: والظاهر أنَّه جاوز التسعين في العمر - غير ظاهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>