قلت: هذا بحثٌ ظاهرٌ لغوي، والراسخ في العلم: الثابت فيه، الماهر في معانيه، العارف للأدلة القطعية على ما يعتقد، فهو أرسخ قدماً من شوامخ الجبال، ولهذا ورد في صفة العالم: أنها تزول الرواسي ولا يزول، وليس كل مجتهدٍ، فهو غوَّاص الفِطْنَةِ، سيَّال الذِّهن، وقاد القريحة، لمَّاحاً لخفيَّات المعاني، درّاكاً لمغاصات الدقائق.
وفي كلام العلامة رحمه الله: ليس العارف كالبارع في المعرفة، ولا ليلة المزدلفة كيوم عرفة. انتهى.
ألا ترى أن أبا بكر وعمر وعثمان وكثيراً من الصحابة كانوا مجتهدين، ولما يكونوا في الرسوخ في العلم كأمير المؤمنين، وقد قدمت في أول هذا الكتاب نكتةً حسنةً في تفاضل الناس إلى غير حدٍّ، فخذه من هنالك.
ويحتمل أن كل مجتهدٍ راسخٌ إذا كان ثابت العقائد والقواعد، لا شك فيما قطع به، وقدر احتمال نقيضه، لأن الراسخ: الثابت في اللغة.
المقدمة الثالثة: إذا اختلف رجلان من أهل العدل والتوحيد في حديثٍ يُخالف عقيدتهما، فقال أحدهما: تأويله مما لا دليل على عجز الراسخين في العلم عن تأويله، ولا دليل في العقل، ولا في السمع على أن علياً عليه السلام وسائر الأئمة، والفطناء، وأهل الدِّريَة بالغَوْصِ على الدقائق لو اجتمعوا واجتهدوا في البحث عن وجوه التأويل، لعَجَزُوا عن تأويله، ولم تهتد إليه فكرهم الغَوَّاصة على الدقائق، الماحية لخفيات المدارك البتة، بل يعلم أنه لا يستحيل تأويله في علم الله على الصحيح.
وقال الآخر: أنا أعتقد أنهم لو اجتمعوا كلهم أولهم وآخرهم، ما قدَرُوا على تأويله البتة.
فإنه لا يستحق أحدٌ منهما تكفيراً ولا تفسيقاً ولا تأثيماً، لأن عقيدتهما واحدةٌ، وإنما اختلفا في بعض ما خالف عقيدتهما: هل يمكن أحدٌ من