وتعالى- في هذه الآية رفع الإشكال، وبيَّن أنّ الكتابة هي الغايةُ القصوى في الاحتراز من الشَّكِّ والبعد من الرَّيْب، ونصَّ على أنَّها أقسطُ وأقومُ، وجاء بأفعلِ التفضيل، وحذف المفضَّل عليه تعميماً لتفضيل الكتابة على سائر الوجوه المبعدة من الريب، المقربة من اليقين، كما في قوله تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}[العنكبوت: ٤٥] وفي قول المصلي.
وهذا في الشَّهادة المبنيَّة على العلم، فكيف في الاجتهاد المبنيِّ على الظنِّ، وهذا في حقوق المخلوقين المبنيَّةِ على المبالغة في الاحتراز بحيث إنَّه لا يُقبل فيها قولُ العدلِ الواحد، ولا قولُ جماعةِ العدولِ فيما يدَّعونَهُ لنفوسهم ونحو ذلك من الخصائص، فكيف في حقوق الله التي لم يُشترط فيها شيءٌ مِن ذلك. وهذه الآية حجة لمن يُجِيز الشهادة على الخطِّ المعروفِ، وهي على أصله أظهرُ في المقصود هنا، وإن كانت حُجَّة على كلا المذهبين، لأن مَنْ لا يُجِيزُ الشهادة على الخطِّ يتأوَّلُها بأنَّ الخط مذكِّرٌ لمن نسي تذكيراً يعودُ معه العلمُ الضروريُّ، فثبت أنَّ الشاهدَ لا يجب أن يكونَ حافظاً حتَّى يشهدَ، ويجوزُ أن ينسى، ثم يتذكرَ، فالمجتهدُ أولى بذلك.
الحجة الثامنة: أنَّ الجماهير قد أجازوا روايةَ لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى، ولم يُوجِبُوا حفظَه بلفظه، واحتجُّوا على ذلك بحجج أقواها رواية الحديث للعجم بلسان العجم، ومنها إجماعُ الصَّحابة على جوازِه حيثُ يروون الحديثَ الواحِد في الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير مناكرة بينهم. فإذا تقرر هذا الذي ذهب إليه الجمهورُ، والذي قامت عليه الأدِلَّةُ أنَّه لا يجبُ حِفْظُ لفظِ حديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على من سمعه منه -عليه السلام- بغير واسطة، فكيف يجب على من بلغه حديث