للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وغيرهم، فيلزمه أن يُسَوِّغَ للقائل أن يقول: إن أبا حنيفة متعمِّد للباطل، لقوله: إن القياسَ مُقدَّم على الخبر (١)، بل لما هو أعظمُ من هذا مثل قوله: إِن النهي يقتضي الصِّحَّةَ (٢) وغيرُ ذلك من المسائل الضعيفة، ومثل قول أبي يوسف، وأبي العباس عليه السلامُ: إن الماء المستعمل (٣) نجس، لأن المعلومَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يَحْترِزُ مما يترشَّشُ منه كما يحترِزُ من البول، ولأنه يَبْعُدُ في النظر أن يكون الوجهُ طاهِراً، والماءُ طاهراً، فإذا التقيا كانا حَالَ الالتقاء طاهرَيْنِ، فإذا انفصلَ الماءُ الطاهر من الوجه الطاهر إلى الهواء الطاهر صارَ الماءُ كالبول وأمثال هذا. فقد رُوِيَ عن ابن مسعود


(١) هذا القول لا تصح نسبته إلى أبي حنيفة رحمه الله، بل مذهبه على النقيض من ذلك، وهو أن خبر الواحد الصحيح، يقدَّمُ على القياس مطلقاً سواء كان الراوي فقيهاً، أم غير فقيه، فقد جاء في " التحرير " وشرحه ٢/ ٣٩٨: إذا تعارض خبر الواحد والقياس بحيث لا جمع بينهما ممكن، قدم الخبر مطلقاً عند الأكثرين، منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وأما أتباع أبي حنيفة، فمنهم من وافقه على مذهبه هذا، فلم يشترط فقه الراوي وهو الذي ذهب إليه أبو الحسن الكرخي، ومنهم من اشترط فقه الراوي، فقال: إن خبر الفقيه يجب العمل به وإن خالف القياس وخبر غير الفقيه المعروف بالرواية أيضاً مقبول يُترك به القياس، إلا إذا خالف جميع الأقيسة وانسد باب الرأي بالكلية، وهو مختار الإمام عيسى بن أبان والقاضي أبي زيد، ووجه هذا القول: أن النقل بالمعنى شائع، وقلما يوجد النقل باللفظ، فإن حادثة واحدة قد رويت بعبارات مختلفة، ثم إن تلك العبارات ليست مترادفة، بل قد روي ذلك المعنى بعبارات مجازية، فإذا كان الراوي غير فقيه، أحتمل الخطأ في فهم المعنى المراد الشرعي، وإن كان هو عارفاً باللغة، وإذا خالف الأقيسة بأسرها وانسد باب الرأي، قوي ذلك الاحتمال قوة شديدة فلم يبق ظن المطابقة، فسقطت الحجية، وصار كالخبر المروي فيما ابتلي به العوام والخواص مخالفاً لعملهم.
وبهذا تعلم أن الخلاف قائم فيما إذا روى الحديث بالمعنى، وأما إذا رواه بلفظه فلا خلاف في قبول خبره، وتقديمه على القياس إذا كان الراوي مستوفياً شروط القبول، ولو كان غير فقيه.
(٢) أي في الشرعيات فقط لا مطلقاً، وقد فصل القبول في هذه المسألة وأجاد العلامة المطبعي في حاشيته " سلم الوصول " ٢/ ٢٩٥ - ٣٠٢، فليراجع.
(٣) انظر تفصيل القول في الماء المستعمل، في " البناية " للفقيه العيني ١/ ٣٤٤ - ٣٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>