فإِن قلتَ: فقد جاز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَحْكُمَ في ما بين الناس، وإن كان خطأ في الباطن، ألا ترى إلى قولِه عليه السلامُ:" لعَلَّ بَعْضَكُم أنْ يَكونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بعْضٍ، فَإذا حَكَمْت لأِحَدِكم بِمَالِ أخِيه فَإنَّما أَقْطَع لهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ "(١) فإذا جاز ذلك على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأولى وأحرى أن يجوزَ على الأمة.
قلت: الجوابُ من وجهين.
الأول: معارضة وهي أن نقولَ: يلزم على هذا تجويزُ الخطأ في التحليلِ والتحريمِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ممنوع بالإجماعِ، سواء قلنا: إنَّه متعبّد بالاجتهاد أو لا.
الثاني: تحقيقٌ، وهو أن نقول: فرق بينَ الصورتين، فإن الدعاوي في الحقوق لا تزالُ مستمرةً في زمانه عليه السلامُ وبعدَه، وقد عَلِمَ الله تعالى أن الوحي غيرُ مستمر بعدَه عليه السلامُ، ولم يكن لنا مصلحة في بناء الحكم بينَ الناسِ على العلم واليقين، فشرع تعالى الرجوعَ فيها إلى الظواهر من الشهادات والبيناتِ، وجعل الحكمَ فيها مستوياً في زمانه عليه السلامُ وفيما بعده من الأزمان؛ إذ يمتنِعُ نزولُ الوحي كلما ادَّعى مدعٍ بعدَه عليه السلامُ، ولم تعلق بذلك المصلحة في زمانه عليه السلامُ، وكذلك سائرُ الأمور المتكررة لم يشرع فيها العملُ باليقين، والرجوع إلى نصوص الشريعة كرؤية الهلال في شهر رمضان، وأشهرِ الحج، ودخول أوقات الصلوات، فإن ذلك لما كان مستمرّاً جعل عليه أماراتٍ ظنية، وجعل