للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ! فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ! فَفَعَلَتْ، فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الْأُولَى فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَتْ،

فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ! فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ! فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ وَأَخْدَمَ خَادِمًا.


= الحديث ليس باعتبار معناه اللغوي الصريح المتعارف عليه في العرف، لأنه الإخبار بخلاف الأمر الواقع مع قصد أن يعتقد السامع أنه مطابق للأمر الواقع. وإنما أطلق عليه الكذب باعتبار أنه أوهم السامع معنى لا يطابق الأمر الواقع. وقصد في نفسه معنى يطابق له، فهو من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وهذا في قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: ٨٩] وفي قضية سارة، وأما في قضية كسر الأصنام فإنه وإن قال قولًا لا يطابق الأمر الواقع صريحا - لا عند القائل ولا عند السامع - ولكنه لم يقصد إيهام السامع أنه مطابق للأمر الواقع، بل أراد إلزام السامع وإقامة الحجة عليه، وهذا أيضًا لا يسمى بالكذب عرفًا. فإطلاق الكذب على هذه الأمور الثلاثة إنما هو باعتبار إيهام السامع أو إلزامه، وليس بمعنى الكذب المعروف هذا، وقد زل بعض الثقات من أهل العلم في هذا الحديث فاجترأ على تكذيبه، وذلك لاستبعاده وتعاظمه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام، ولو أنه دقق قليلًا لعرف أن اثنين من هذه الثلاثة مذكوران في القرآن، ولا سبيل لإثباتهما حقًّا وصدقًا، فأين المفر؟ (ثنتين في ذات الله) خصهما بذلك لأن قضية سارة وإن كانت أيضًا في ذات الله لكنها تضمنت حظًّا لنفسه ونفعًا له، بخلاف الثنتين الأخريين، فإنهما في ذات الله محضًا {إِنِّي سَقِيمٌ} أي مريض، قال ذلك اعتذارًا عن الحضور معهم، ولو كان له سقم يمنعه عن الحضور معهم لمنعه عن كسر الأصنام أيضًا، فعرفنا أنه تأول في ذلك، وأراد أنه سيسقم أو أنه يصير سقيم الحجة إذا حضر معهم، فأخفى هذا المعنى في نفسه، وأوهم معنى لم يكن يطابق الواقع {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: ٦٣] أي الصنم الأكبر، وهذا لم يكن يطابق الواقع، ولا كان لإيهام السامع، ولكن كان لإقامة الحجة عليه (إن هذا الجبار إِنْ يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليكِ) ليس معنى الغلبة أنه يغصبها منه ويكتفي. لأن محاولة الاغتصاب وقعت من الملك مع علمه أنه أخ وليس بزوج، وإنما أراد بذلك أنه يحبسه أو يقتله، وإذا علم أنه أخ لا يفعل شيئًا من ذلك، وإنما يغصب فقط. فأراد دفع أعظم الضررين بتحمل أخفهما. وقد ذكر المنذري في حاشية السنن - أبي داود - عن بعض أهل الكتاب أنه كان من رأي الجبار المذكور أن من كانت متزوجة لا يقربها حتى يقتل زوجها، فلذلك قال إبراهيم: هي أختي. لأنه إن كان عادلًا خطبها منه، ثم يرجو مدافعته عنها، وإن كان ظالمًا خلص من القتل (فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرك) المراد بالأرض هنا الأرض التي كان فيها، فإن لوطًا عليه السلام كان مسلمًا، ولكن لم يكن معه في تلك الأرض (فقبضت يده) على سبيل التشنج من الداخل (فلك اللهَ) بنصب الله، أي أُشهد الله وأعاهده لكِ (إنما أتيتني بشيطانٍ) أي بمتمرد من الجن، وكانوا يعظمون أمر الجن، ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعلهم وتصرفهم (وأعطها هاجر) لتكون خادمًا لها، لأنه أعظمها أن تخدم نفسها. وهاجر وآجر كلاهما بفتح الجيم، هي أم =

<<  <  ج: ص:  >  >>