للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن لا يكونَ كلامُ الصِّدِّيق تفسيراً، ولذلك قال: " برأيي " حتى يكون بريئاً مِنَ الخبر عَنِ الله تعالى في مُراده، وإنَّما قَصَدوا العملَ لأجل الضرورة فيه، لا الخبر عن الله تعالى، لأن الخبر عنه بالرّأي بمنزلة النُّبُوَّةِ بالرّأي، والوحيِ بالرأي، فالعمل يتفرَّع على الظن، ويترتَّبُ عليه؛ لأنَّ في مخالفة الظَّنَ بالعمل مَضَرَّةً مظنونةً، وركوبُ مثل ذلك قبيحٌ بفطرةِ العقول (١)، وشواهدِ المنقول، وفي الصَّحيح أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: " أَرأيْتُمْ لَوْ أَنْذَرْتُكُمُ الجَيْشَ " (٢) الحديثَ، فهم (٣) عاملون بالظَّنِّ، غيرُ مخبرين عَنْ مُرادِ اللهِ، وذلك لا يتناقض، بل قد صحَّ إنّ ما سمَّاه أبو بكر رأياً هو معنى الكَلالةِ في اللُّغَةِ، وليس ذلك بِرأْيٍ على الحقيقة، لكِنَّهُ -لِشدَّةِ ورعه واحتياطه- سمَّاه رأياً، حيث تَمَسَّكَ بالظاهر مِنْ غير نصٍّ ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قال الشيخ: الثانية: أنَّه إنْ ذَكَرَه، لم يطلق القول بأنَّ المراد منه كذا وكذا، لأنَّه حكم بما لا يَعلم، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} [الإسراء: ٣٦].

ولا يجوز التَّحدُّثُ به مع الخلق؛ لأنَّهُ قادرٌ على تركه، وهو في ذكره


(١) في (ش): العقل.
(٢) أخرجه البخاري (٤٧٧٠)، ومسلم (٢٠٨) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وأنذِرْ عشيرتَكَ الأقربين}، صَعِدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصفا، فجعل يُنادي: " يا بني فِهر، يا بني عدي " -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجلُ إذا لم يستطع أن يخْرُج، أرسلَ رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريشٌ، فقال: " أرأيتكم لو أخبرتُكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغيرَ عليكم، أكنتم مُصَدِّقيِّ؟ قالوا: نعم، ما جرَّبْنا عليك إلا صِدْقاً، قال: " فإني نذيزٌ لكم بين يدي عذاب شديد "، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}.
(٣) في (ش): وهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>