وذلك أَن لفظ كتاب الله تعالى:{لا جُنَاحَ عليكم}[البقرة: ٢٣٦] كما تقدم بيانه. والجُناح: هو الإثم في اللغة. وكذا قوله:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[البقرة: ٢٨٦] في كون شرط التعمد، حيث ورد. وإنما وَرد قيداً في الوعيد، وهذه أصرحُ الآيات، وبقية الآيات كالشواهد لها، ثم هو القَدَرُ المتحقق.
وتخصيصُ -هؤلاء الخوارج- بعدم العفو في الآخرة، مثلُ تخصيص المخطىء من اليهود والنصارى.
والوجه فيه أن الله تعالى أقام عليهم الحُجَّة، وعَلِمَ منهم التعمد -ولو في بعض الأوقات-: إما في الابتداء، ثم عاقبهم، وسلبهم الطاقة، كقوله:{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام: ١١٠]، وإما في أثناء المناظرة والنظر، يدُلُّ على ذلك قوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[آل عمران: ١٩]. وقوله: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: ١٤ - ١٥] وقوله -في بعضهم، بعد ذكر الآيات-: {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}[النمل: ١٤]. وقوله -في آخرين-: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام: ٣٣]. قُرِىءَ:" يكذبونك " بالتشديد والتخفيف معاً (١).
(١) قرأ نافع والكسائي: {يكْذبُونك} بالتخفيف وتسكين الكاف، والمعنى: لا يُلْفُونَكَ كاذباً، أو لا يُكَذِّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آيات الله ويتعرضون لعقوباته، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة وابن عامر: {يُكذِّبُونَكَ} بالتشديد وفتح الكاف، قال ابن عباس: لا يسمونك كذاباً، ولكنهم ينكرون آيات الله بألسنتهم، وقلوبهم موقنة أنها من عند الله، انظر " حجة القراءات " ٢٤٦ - ٢٤٩ و" زاد المسير " ٣/ ٢٨ - ٣٠.