للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكمال ذاته وصفاته ولهذا لم يتمدَّح بعدمٍ محضٍ لا يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدوم يُشارِكُ الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ} أنه لا يُرى بحالٍ، لم يكن في ذلك مدح ولا كمال (١) لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف لا يرى، ولا تدركه الأبصار، والربُّ -جلَّ جلالُه- يتعالى أن يُمْدَحَ بما يُشارِكُه فيه العدم المحضُ، فإذاً المعنى: أنه (٢) يُرى، ولا يُدرَكُ ولا يُحَاطُ به كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: ٦١] أنه يعلم كل شيءٍ، وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا من لُغُوبٍ} [ق: ٣٨]: أنَّه كامل القدرة، وفي قوله: {ولا يَظلِمُ ربُّك أحداً} [الكهف: ٤٩]: أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ} [البقرة: ٢٥٥]، أنه كامل القيومية، فقوله: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} [الأنعام: ١٠٣] يدل على غاية عَظَمَتِه، وأنه أكبرُ من كل شيءٍ، وأنه لعظمته لا يُدرَكُ بحيث يُحاطُ به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائدٌ على الرؤية، كما قال تعالى: {َفلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا} [الشعراء: ٦١، ٦٢]، فلم يَنفِ موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}: إنا لمرئيون، فإن موسى - صلوات الله وسلامه عليه - نفي إدراكهم إيَّاهم بقوله: كلاَّ، وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دَرَكَهُم، بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: ٧٧] فالرؤية والإدراك كل منهما يُوجَدُ مع الآخر وبدونه.

فالربُ تعالى يُرى ولا يُدرَكُ كما (٣) يُعلَمُ ولا يُحاطُ به، وهذا هو الذي فهمته الصحابة والأئمة من الآية.

قال ابن عبَّاس: لا تدركه الأبصار: لا تُحيط به الأبصار (٤).


(١) في (ش): لم يكن تمدح ولا كمال
(٢) في (ب): أن.
(٣) في (ش): كما أنه.
(٤) رواه عنه الطبري (١٣٦٩٤) بسند مسلسل بالضعفاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>