مثال ذلك ما خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث فضيل، عن الشعبي، عن أنس، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك، فقال:" هل تدرون مما أضحك "؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:" من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا ربِّ ألم تُجرني من الظلم؟ يقول: بلى، فيقولُ: إني لا أُجيزُ اليوم على نفسي شاهداً إلاَّ مني، فيقول: كفي بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالملائكة الكرام عليك شهوداً، فيُختم على فيه، ويُقالُ لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لَكنَّ وسُحقاً فعَنْكُنَّ كنتُ أُناضلُ "(١).
فهذا عذرٌ حَقُّ من الله عزَّ وجلَّ يقابل العذر الباطل من العبد، وإلا فعلم العبد الضروري بأنه كاذبٌ أقوى حجة في باطن الأمر، وعلم الرب عز وجل أقوى من علم العبد الضروري.
وهذا الحديث وإن كان حديثاً واحداً، فالقرآن يشهد له حيث قال حاكياً عنهم:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء}[فصلت: ٢١] مع أن الحديث الظني في هذا المقام من أرفع ما يحتج به، لأن القصد في هذا المقام بيان مجرد احتمال الحكمة، وقطع قول من أحالها فيه، أو عيَّنها في وجهٍ باطل.
وقد وَرَدَ من الحديث الصحيح نحو هذا، وصُرِّح فيه بلفظ العذر عن أبي هريرة في بعض رواياته في حديث الرؤية، قال:" فيلقى العبد فيقول: أيْ فُلْ: ألم أُكرمك وأسوِّدْك؟ فيقول: بلى، فيقول: أظننتَ أنك مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني ... إلى قوله في المنافق: "فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرُسُلِك، وصُمْتُ، وتَصَدَّقتُ، ويُثني بخيرٍ ما استطاع، فيقول: ها هنا إذاً، قال: فيقال: الآن نبعثُ شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه من الذي يشهدُ عليَّ، فيُختَمُ على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذُه ولحمه
(١) أخرجه مسلم (٢٩٦٩)، وأبو يعلى (٣٩٧٥) و (٣٩٧٧)، وابن حبان (٧٣٥٨)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص ٢١٧ - ٢١٨.