للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أطلب ذلك في مقدار أربعين سنة، فما وقفتُ عليه مع طولِ الطلبِ حتى جاوزت الستين سنة، وراجعتُ شابّاً لم تَنْبُتْ لحيتُه من أهل حضرمَوْت في مسألة الأفعال، وجعلت أفهمه مذهب الأشعرية، والفرق بينه وبين مذهب الجبرية خوفاً عليه من اعتقاد الجبرية، وأنا أظنُّ فيه بُعد الفَهم، فجاءني بهذه اللطيفة، وقال: إنهم يذكرون أن لله تعالى حُجتين: حجة باطنة، وحجة ظاهرة، فالباطنة في الأقدار، والظاهرة في الأعمال. فعجبت من ذلك كثيراً وعَلِمتُ (١) أن الفضل بيد الله يُؤتيه من يشاء.

ومما يوضح ذلك ما ثبت من تقديره تعالى لمقادير وقع معها (٢) خروج آدم من الجنة على جهة العقوبة بذنبه (٣) الذي اختاره، ولا عُذْر له فيه، وإنما خرج لما (٤) لله تعالى في خروجه بذنبه من الحِكمة، وإلا فذنوب الأنبياء صغائر مغفورة، وقد تاب آدم، وتاب الله عليه مع كون ذنبه صغيراً قبل التوبة مع أن الله تعالى قد كان قدَّر أن آدم خليفة في الأرض، وخلقه لذلك، كما أخبر به الملائكة في نص القرآن.

يوضحه أن الذنوب لا تصلُحُ على انفرادها في العقل [أن تكون] موجبة للعذاب في حق الرب سبحانه، وإن كان يصلح لذلك في حق غيره، كما هو مذهب البغدادية من المعتزلة، لأن حسن العذاب عليها من قبيل (٥) الإباحة المستوية الطرفين، بل المرجوحة إذا خَلَتْ عن الحكمة، لأن العفو أفضل بضرورتي المعقول والمنقول، فلولا أن فيه حكمةً بالغة سابقة لتقدير الذنوب ما فعله أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين بمجرد كونه مستحقاً مُباحاً مع تطابق شرائعه وأوامره على ترجيح العفو والصبر، وكظم الغيظ، وتلك الحكمة هي التأويل الذي لا يعلمه إلاَّ الله.


(١) ليست في (ش).
(٢) في (ش): " بعضها "، وهو خطأ.
(٣) في (ش): على الذنب.
(٤) في (ش): بما.
(٥) في (ش): قبل.

<<  <  ج: ص:  >  >>