فهذا تفضيلٌ في الفهم بَيْنَ سليمان وداود -عليهما السلام-، مع الاشتراكِ في النبوة، والتفاوت ما بيْنَ الأُبوة والبنوة.
وكذلك قد فَاضَلَ اللهُ بينَهم فيما دُونَ هذه المرتبة، وهي مرتبةُ البيان، ووضوحِ العبارة، مثلَ ما نصَّ عليه من إيتاءِ داود فصلَ الخطاب، ومثل قول موسى في أخيه -عليهما السلام- {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}[القص
ص: ٣٤].
وعمودُ التفاوتِ الذي يدورُ عليه، وميزانُهُ الذي يُعتبر به في أغلب الأحوال هو: التفاوت في صِحَّة الفَهْمِ، وصفاء الذِّهن، واعتدالِ المِزَاج، وسلامةِ الذوق، ورُجحانِ العقل، واستعمالِ الِإنصاف. فهذه الأشياء هي مبادىء المعارف، ومباني الفضائل ولأجلها يكون الرجلُ جواداً من غير إسراف، وشجاعاً من غير تَهوُّر، وغنياً من غير مال، وعزيزاً من غير عشيرة، إلى غير ذلكَ من الصفات الحميدة، وعكسها مِن الرذائل الخسيسة.
ومِنْ ها هنا حَصَلَ التفاوتُ الزائد، حتى عُدَّ ألفُ بواحد، وقد أنشد الزَّمخشريُّ (١) -رحمه الله- في ذلك:
(١) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري الإمام الكبير في التفسير والنحو واللغة وعلم البيان كان إمام عصره غير مدافع، تُشد إليه الرحال في فنون، له التصانيف البديعة، إلا أنه غفر -الله له- كان داعية إلى الاعتزال، وقد أودع في تفسيره المسمى بـ " الكشاف " كثيراً من آراء أهل الاعتزال، وقد أولع الناس به، وبحثوا عليه، وبينوا أغاليطه، وأفردوها بالتأليف، ومن رسخت قدمه في السنة وقرأ طرفاً من اختلاف المقالات، انتقع بتفسيره، ولم يضره ما يخشى من أخطائه. كانت وفاته رحمه الله سنة ثمان وثلاثين وخمس مئة. =