ويوضحه أن الخمر لم تحرَّم إلاَّ مرة واحدة، وأن تحريمها كان بآية المائدة، فقد صحَّ معنى ذلك، وفيه أوضح دليلٍ على جواز تعلُّق الإرادة والكراهة بأمر واحد لاختلاف الوجوه والاعتبارات.
والتحقيق أنه لما كان قبح القبيح غير ذاتي، وإنما نشأ من تعلُّق إرادة فاعله بإيقاعه على وجهٍ مخصوص، كان الوجه في قبح إرادته هو تعلقها بذلك الوجه المخصوص، لأن قبحها تبعٌ لقبح القبيح، فكان منشأ قبحها من جهة واحدة، وتلك الجهة عند الأشعرية هي مخالفة الأمر، وعند المعتزلة وكثير من أهل السنة هي الوجه المخصوص الذي وقع الفعل عليه، وكان علةً في التحريم الشرعي، وليست الإرادة تؤثر في قُبح القبيح عند المعتزلة كما يأتي في مسألة الأفعال.
فثبت أن هذه العوارض التي قُبح الفعل وإرادته لأجلها منفصلة عن إرادة الله تعالى لو قدرنا ما ليس بصحيح من خلق إرادة الله بعين ما هو فعل العبد.
بيانه: أن فعل العبد يقعُ منه تارة أمتثالاً لله تعالى، وإرادة لطاعته عز وجل بداعي الرغبة أو الرهبة أو المحبة، فيوصف بأنه طاعة وعبادة، وتتعلق به حينئذ محبة الله ورضاه، وأمره ووعيده، وثناؤه وثوابه حقيقة، وإرادته ومشيئته مجازاً.
وتارة مخالفة للأمر ضعفاً وعجزاً، أو شهوةً أو نفرة، فيوصف بأنه معصية وسيئة.
وتارة مخالفة للأمر استهانة وجحداً، فيوصف بأنه كفر.
ولا يصح أن يريد الله تعالى وقوعه ممن لم يستحق العقوبة على وجه من هذه الوجوه على جهة الإضلال ابتداء لقوله:{وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين}[البقرة: ٢٦].
وإنما يجوز عقلاً أن يريد وقوعه ابتداء قبل استحقاق العبد لعقوبته ابتلاء، ولا يُسمى إضلالاً لما لا يُحيط بعلم جميعه إلاَّ هو سبحانه و {لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا}[البقرة: ٣٢] كما قالت الملائكة، {ولا يُحيطونَ بشَيْءٍ من عِلمِه إلاَّ