للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: ١٣]. والدليلُ على أن الهداية في هذه الآية مما لا يصح تأويله بالإكراه أنها هداية مانعة من دخولهم النار، بدليل قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} فلو كانت هداية إكراه، لصحَّ أن يهديهم بها، ثم ملأ بهم جهنم، ولما كان لهذا (١) الاستدراك (٢) معنى، وسياق الكلام من أول الآية يؤيد هذا ويدل عليه.

وذلك أن الكفار حين تحققوا صحة المعاد قالوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: ١٢] وهذا الكلام إنما يليق لو كان الله -تعالى عن ذلك- لم يقدر على هدايتهم فيما تقدم من حياتهم الأولى، ولم يدعها عمداً لحكمة راجحة استأثر بعلمها، فلذلك رد الله عليهم بما يدل على سَبْقِ قدرته على ذلك، وإنه لو أراد ذلك لم يعجز عنه في حياتهم الأولى حتى يستدركه بعد البعث، والله سبحانه أعلم.

ويوضحه قوله: {ولو رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: ٢٨] ومن هنا قالت المعتزلة: إن الله بناهم على بنيةٍ لا تقبل اللطف، وقد بيَّنَّا أول مسألة الإرادة أن تغيير تلك البنية مقدور لله عزَّ وجلَّ عقلاً وسمعاً، وكفى دليلاً على ذلك قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} الآية [الإسراء: ٥٠ - ٥١]، وقد تقدم الكلام عليها. بل هو سبحانه قادر على هدايتهم من غير تغيير بنيتهم، وكفى في بيان ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: ١١١] وقد تقدم الكلام عليها قريباً.

فإن قيل: إنما أتى (٣) الاستدراك مع الإكراه للتنبيه على أن الإكراه مانعٌ أن


(١) في (أ): هذا، والمثبت من (ش) وهامش (أ).
(٢) في (أ): الاستدلال.
(٣) في (ش) زيادة: في.

<<  <  ج: ص:  >  >>