وقصةُ موسى والخضر صريحةً في ذلك كافية لمن كان له أدنى حظ من عقل أو إيمان، ولا يقال: هلاَّ ترك الله خلق الغلام الذي أمر الخَضِر بقتله، لأنه سبحانه لو ترك ذلك وأمثاله لم يكن شيءٌ من الشرور والابتلاء، وإنما كلامنا في أن الحكمة الخفية اقتضت ذلك لما يُعلَمُ ولما لا يُعْلَمُ.
ألا ترى أن الله تعالى لو لم يخلُقِ الغلام، ويأمر الخضر بقتله، لم تكن قصة الخضر وموسى، ولا علمنا هذا الدليل القاطع على أن أفعال الله المتشابهة لها تأويلاتٌ حسنة في العقول، فإنا لم نَجِدْ في السمع دليلاً على ذلك أوضح من قصتهما، فقد حصل بوقوع هذا الشر، وظهوره حجةٌ قاطعة على أن الله لا يريد الشر لنفسه، وإلا لما احتاج الخَضِر إلى تأويل ذلك لموسى، ونحو ذلك من الحكم.
وأما قولهم: إن طلب الإيمان من المؤمن مع رُجحانه نظيرُ طلب تحصيل الحاصل، وطلبه من الكافر مع مرجوحيته مثل طلب تحصيل الممتنع، فمردود.
أما الأول: فلأنَّ الطلب من المؤمن هو الداعي الحامل على الإيمان، فلم يكن طلباً لتحصيل الحاصل، وكيف يقال ذلك ولولا توجُّهُ الطلب إليه لم يُفْعَلْ، ولا كان المطلوب طاعةً، ولا كان مؤمناً أصلاً؟!
وأما الثاني: فقد تقدم في الإرادة أنه يستحيل تعلقها بما عَلِمَ المريد أنه لا يكون، فكيف يتوجه حقيقة الطلب الذي تصحبه الإرادة إلى ما عَلِمَ أنه ليس بحاصل؟ وإنما يتوجه إلى الكفار لفظُ الأمر لقيام الحجة، وغير ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، لا ما توهمه السائل من إرادته سبحانه أن يبطلوا أقداره الماضية ويعارضوا مشيئته النافذة، وعلمه الحق، والمعتزلي يَفِرُّ من سبق الإرادة، ولا فرق بين سبقها وسبق العلم في وجوب الكائنات مع بقاء الاختيار باعتبار الجهتين.
ولنختم ذلك بنكتة نفيسة، هي سر هذا الكلام كله ولبابه، وذلك أن التعذيب بمجرد الاستحقاق بمنزلة المباح، وهو حقيقة العبث في حقه تعالى،