للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا بد من إثباتهما معاً كما قال الخطابي، وكما يأتي واضحاً في مسألة الأقدار قريباً إن شاء تعالى.

فإن فكر العبد، وتذكر، واستعان بربه سبحانه، واختار طاعته، اهتدى وزاده هدى، كما قال تعالى: {والذين اهتَدَوْا زَادَهُم هُدىً وآتاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: ١٧]، وقال: {والذين جاهَدُوا فِينا لَنَهدِينَّهمْ سُبُلَنا} [العنكبوت: ٦٩]، وهذه الآيات الكريمة تفرق بين الهُدى الاختياري وهو الأول، وبين الهدى الاضطراري وهو الثاني الذي وقع جزاءً على الأول.

وإن ترك العبد الفكر والنظر في ترجيح دواعي الطاعة واستحضارها، وترك الاستعانة بربه سبحانه لم يُعَجِّل عليه سبحانه وتعالى في أول ذنب بالعُقوبة إن شاء الله تعالى حتى يظهر فيه آثار أسمائه الحسنى، لما ورد في القرآن والسنن الصحاح المستفيضة من إرادته السابقة سُبحانه في المذنبين أن يغفر لهم، ويُقيم حجته عليهم كما مر تقريره في مسألة الإرادة.

فإن شكر العبدُ نعمة ربه في عفوه عنه بإمهاله بعد ذنبه حتى مكَّنه من التوبة، وذكَّره ذلك، قَبِلَه ربه عز وجل، وإن تمادى في عصيانه ولم يشكر نعمة ربه في إمهاله وغفرانه، فإن (١) وَكَلَه إلى نفسه وعامله بعدله، وعاقبه على سوء اختياره، خَذَلَه، وسَلَبَه ألطافه كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: ١١٠]، وقال: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: ٢٦] وأمثالها.

وإن أراد أن يمُنَّ عليه ويرحمه، عطف عليه باللطف والهدى من بعد كما بدأه بذلك من قبل، وكما في حديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون، فيغفرُ لهم " (٢)، واختص من شاء بعطفه كما اختص بالخلق من يشاء،


(١) ساقطة من (ش).
(٢) تقدم تخريجه في ٤/ ١٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>