فهذا ما حضرني في هذه الفائدة، ولا خفاء على العاقل أن الخوض في هذه اللُّجَّة التي هابها فضلاءُ العقلاء لا يكون إلاَّ مصحوباً بحُسْنِ النية وشدة الرغبة إلى الله في الهداية، والتوقُّف على القول بغير درايةٍ، والفكرِ الطويل، وتحرِّي الإنصاف، والجمع بين أطراف الكلام التي يظهر تنافيها، وتطلُّبِ المحامل الحسنة، وعدم المؤاخذة بظاهر العبارة متى دلَّت القرينة على صحة المراد فيها، فإنها مسألة صعبة تقصُرُ فيها العبارات الطويلة، فكيف بالإشارات الخفيَّة.
وقد روى ابن الأثير في " جامع الأصول "(١) عن مالكٍ الإمام أنه قيل لإياس: ما رأيك في القدر؟ قال: رأيُ ابنتي، يريد لا يعلم سِرَّهُ إلاَّ الله تعالى، وبه كان يُضْرَبُ المثل في الفهم.
وقد حُكي أن يحيى بن آدم ذكر أثر عبد الله بن عباس المقدم الموقوف لعبد الله بن المبارك، فقال ابن المبارك: فيسكت الإنسان على الجهل وهو إشارةٌ من ابن المبارك إلى ما ورد من الحثِّ على العلم، وما فيه من الخير، والتحذير من الجهل، وما فيه من الشرِّ، وأن هذه القاعدة المعلومة لا تُترك إلا بتحريمٍ متَّفَقٍ على صحته.
وأقول: إن الإنسان بالضرورة يسكت على الجهل حيث لا طريقَ إلى العلم، وأقصى مَرامِ الخائضين في القدر أمور:
أحدها: العلمُ بالعجز عن درك السرِّ فيه، وفائدة العلم بذلك سكون النفس عن المطالبة بالمعرفة والذوق لا بمجرد التقليد.
وثانيها: معرفة ما يمكنُ معرفته من الوارد في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والجُمَلِ العقلية، وحكم أئمة الإسلام والأولياء.