للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويلحق بهذا ما خرَّج أبو داود في باب لزوم السنة (١) أن رجلاً كتب إلى عُمَرَ بن عبد العزيز يسأله عن القدر؟ فكتب إليه أما بعد: فإني أُوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سُنَّة رسوله، وترك ما أحدث المُحْدِثون بعد ما جرت به سُنَّتُه، وكُفُوا مُؤْنَتَه، ثم اعلم أنه لم تُبتدع بِدعة إلاَّ قد مضى قبلها ما هو دليلٌ عليها وعِبْرةٌ فيها، فإن السنة إنما سنَّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمْقِ والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على (٢) علم وقفوا، وبِبَصرٍ كَفُّوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أحرى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلاَّ من اتبع غير سبيلهم، ورَغِبَ عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلَّموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه (٣) ما يشفي (٤)، وقد قصَّر قومٌ دونهم فَجَفَوا، وطمح عنهم أقوام فغَلَوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم، كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر، فعلى الخبير بإذن الله وقعت، ما أعلم أحدث الناس من مُحدَثَةٍ هي أبين أثراً من الإقرار بالقدر، لقد كان ذِكره في الجاهلية الجهلاء في كلامهم وشعرهم يُعَزُّون به أنفسهم على ما فاتهم، ولم يزده الإسلام إلاَّ شدة، ولقد ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث، قد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيءٌ لم يُحِطْ به علمه، ولم يُحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا. لقد قرؤوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كله بكتابٍ وقَدَرٍ وكتبت الشقاوة، وما يُقَدَّرْ يَكُنْ، وما شاء الله كان،


(١) رقم (٤٦١٢).
(٢) في (أ) و (ف): عن.
(٣) في (أ) و (ف): ووضعوا فيه.
(٤) في أبي داود هنا زيادة هي " فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر ".

<<  <  ج: ص:  >  >>