وإنما نورد هنا كلام من أقر بالتوحيد، وسعى في التصديق بكلام الحميد المجيد.
واعلم أن اضطرابهم في ذلك مبني على الغفلة عن قاعدتين عظيمتين.
إحداهما: أن الله تعالى يعلم من كل نوع من أنواع المعلومات ما لا نعلمه، ومن أعظم تلك الأنواع وأجلِّها قدراً، وأدقِّها سراً، وألطفها نوع المعلومات من الحكم والمصالح والغايات الحميدة، بل متى فتح الله على بعض عباده من ذلك مثل سمِّ الخياط، أو وهب له منه قطرةً من بحار لم يستطع أحدٌ من الخلق الاطلاع على مكنون حكمته، ولا وسعت الطباع البشرية الصبر على التسليم لفضل معرفته، وكفى في ذلك عبرةً بقصة الخَضِر والكليم عليهما أفضل الصلاة والتسليم، فإنها تكُفُّ كفَّ الاعتراض على الأعلم في باب المصالح والحكم. ومن لم يُسَلِّمْ هذه القاعدة، يلزمه مساواة الخالق والمخلوق في معرفة المصالح وجميع دقائق الحكمة، وكيف يستوي ربُّ الأرباب والمخلوق من التراب.
وما أحسن ما قاله الفخر الرازي:
العلمُ للرحمن جلَّ جلاله ... وسِواه في جَهَلاتهِ يَتَغمْغَمُ
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يَسْعَى لِيَعْلَمَ أنَّه لا يعلمُ
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
تجاوزتُ حدَّ الأكثرين إلى العُلى ... وسافَرْتُ واستبقيتُهم في المفاوزِ
وخُضْتُ بِحاراً ليس يُدْرَكُ قَعْرُها ... وسيَّرْتُ نفسي في فَسيح المَفاوِزِ