للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فانكشف أن قوله: إن الضرورتين تعارضتا، تمويهٌ نازل منزلة قول القائل: إن النفي والإثبات قد اجتمعا، وإن النقيضين قد صدقا، ولو كان مثل ذلك يصح لم يكن إلى صحته طريق، لأن ذلك يبطل الثقة بالعلوم، ومعرفة الصحة والبطلان لا يكون إلاَّ مع بقاء العلوم.

وإنما يصح أن يقال: تعارض المذهبان المستخرجان من هاتين الضرورتين فدلَّ (١) على فساد أحد الاستخراجين، وهو استخراج نفي الاختيار من وجوب وقوع الراجح، ووجوب احتياج الممكن إلى مرجِّحٍ، لأن هذا الوجوب وجوب أولويةٍ واستمرارٍ، لا وجوب عجزٍ واضطرار، كما أقر به الرازي في حق البارىء تعالى، وقال: إن خِلافه خروجٌ من الإسلام كما مرَّ (٢).

وقد قطعنا بعدم تأثير الدواعي، فنقطع أيضاً بتوقف تأثير القدرة عليها وتوقف الجميع على الاختيار، فإنا نقطع بقدرة أحدنا على ما لا يفعله قطعاً من التردِّي من الشواهق بغير موجبٍ، وشرب السموم، وقتل الأولاد، ومع قطعنا بأنا لا نفعل ذلك، فإنا نجد فرقاً ضرورياً بين تركنا لذلك بسبب الصارف عنه، وبين ترك ذلك عند العجز عنه بالمنع بالغلِّ والقيد، وأن الداعي الراجح هنا لو دعا إلى الفعل ما صدر منا، وإذا دعا الداعي الراجح إلى الفعل في الصورة الأولى وقع لا محالة.

وبهذا الفرق الضروري، جميع ما تقدم، يندفع الجبر ويثبت الاختيار، وتقدم في مسألة الأقدار وفي أول الكلام على الأفعال تحقيق ذلك على حسب وُسْعِ البشر، ومدارك العلوم (٣) والنظر.

واعلم أنه ليس للمعقول (٤) وراء هذا مَدْرَك، وكل ما ذكرناه من إحساس الاختيار ووقوع الراجح قطعاً، وحاجة الممكن إلى الراجح ضروري في فِطَرِ


(١) في (ش): تدل، وكذلك أثبت فوق (أ) و (ف).
(٢) " كما مر " لم ترد في (ش).
(٣) في (ش): العقول.
(٤) في (ش): للعقول.

<<  <  ج: ص:  >  >>