الوجه الثاني: لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله بالمعاوضة، لأن العمل حقيرٌ ليس يُستحق بمثلِه مثلُ الجنة لو رجعنا إلى العوض المحقق، والباء في قوله:{بما كنتم تعملون}[النحل: ٣٢]، باء السببية، فالأعمال سبب ذلك الفضل العظيم، والباء في السببية ظاهرةٌ شهيرةٌ، وقد تكون الأسباب عللاً في التفضل.
وقد جمع الله الأمرين في قوله تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الأعراف: ٤٣].
الوجه الثالث: ما ذكره سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته، وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال.
ويدل على هذا حديث أبي هريرة، وفيه " أن أهل الجنة إذا دخلوها، نزلوا فيها بفضل أعمالهم ". رواه الترمذي (١).
وقد دل على ذلك ما لا يُحصى من كتاب الله، مثل قوله تعالى:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان: ١٢].
والتحقيق أن مقدار الأجر المستحق على تقدير وجوبه غير معروفٍ عقلاً، فجائز أن يكون حقيراً لو بيَّنه الله، وقد سمى الله الجنة فضلاً، فلا موجب لتأويله، لأنه عز وجل جعلها جزاء عملٍ حقيرٍ كرماً فضلاً، ولو لم يزد على القدر المستحق على تقدير صحته، لكان ما لا قدر له ولا نفع.
(١) برقم (٢٥٤٩). ورواه أيضاً ابن أبي عاصم في " السنة " (٥٨٥) و (٥٨٧)، وابن ماجه (٤٣٣٦)، وابن حبان (٧٤٣٨) وإسناده ضعيف. وانظر " صحيح ابن حبان "، فقد فصلنا القول فيه هناك.