للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: هذا من الصَّنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهي أن تُساق كلمة مساق المجاز، ثم تُقفَّى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن، لم يُر كلاماً أحسن ديباجةً، وأكثر ماء ورونقاً منه، وهو المجاز المرشح، وذلك نحو قول العرب في البليد:

كان أذني قلبه خطلاوان، جعلوه كالحمار، ثمَّ رشَّحوا ذلك روماً لتحقيق البلادة، فادَّعَوْا لقلبه أُذنين، وادعوا لهما الخَطَلَ، ليُمثِّلُوا البلادة تمثيلاً تلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة، ونحو ذلك:

ولمَّا رأيتُ النَّسْرَ عزَّ ابنَ دَأْيَةٍ ... وعشَّشَ في وكرَيْه، جاش له صدري (١)

لما شبَّه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فُتّاكهم في أمه:

فما أم الردين وإنْ أدلَّت ... بعالمةٍ بأخلاق الكرامِ

إذا الشيطان قصَّع في قفاها ... تنفَّقناهُ بالحبْلِ التُّؤامِ (٢)

أي: إذا دخل الشيطان في قفاها، استخرجناه من نافقائه بالحبل المُثَنَّى المحكم.


(١) البيت أنشده الفراء كما في " اللسان " ٥/ ٤٠٥ و١٤/ ٢٤٨، و" خزانة الأدب " ٦/ ٤٥٧، وفيها: " جاشت له نفسي " شبه الشيب بالنسر لبياضه، وشبه الشباب بابن دأيةٍ، وهو الغراب الأسود لأن شعر الشباب أسود.
وعزَّه يَعُزُّه: إذا غلبه وقهره، والمراد بالوكرين الرأس واللحية.
(٢) دلت المرأة وأدلت: حسن تمنعها مع رضاها، ونفي علمها بأخلاق الكرام كناية عن سوء خُلُقِها، وقصع اليربوع: اتخذ القاصعاء أو دخل فيها، وهي جحره الذي يدخل فيه، وتنفق: اتخذ النافقاء أو خرج منها وهي الطرف الثاني من الحجر الذي خرج منه، وتنفقه الصائد: استخرجه منها، فلجحره بابان إذا أتاه الصائد من الأول خرج من الثاني، والحبل التؤام، الحبل المثنى المفتول.

<<  <  ج: ص:  >  >>