للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لما استعار لدمعه لون الدم، تناسى التَّجوُّز، فأخذ يخبرُ عن سبب تلك الحُمْرَةِ التي في دمه كأنها حمرةٌ حقيقة، ولما استعار للسُّهد اسم الضيف، ذكر ما يتعلق بالضيف من النَّحر، ولما جعل الكرى منحوراً، ذكر سيلان دمه على وجنته.

شربنا على ذكر الحبيب مُدَامَة ... سَكِرْنا بها من قبل أن تُخلَقَ الكَرْمُ (١)

لها البدر كأسٌ، وهي شمشٌ يُدِيرُها ... هِلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نجمُ

ولولا شذاها ما اهتدينا لحانِها ... ولولا سَنَاهَا ما تصوَّرها الوَهْمُ

فإن ذُكِرَتْ في الحي أصبح أهلُه ... نَشَاوَى، ولا عارٌ عليهم ولا إثمُ

ومن بين أحشاء الدِّنان تصاعَدَتْ ... ولم يبق منها (٢) -في الحقيقة- إلاَّ اسمُ

ولو (٣) خطرت يوماً على خاطر امرىءٍ ... أقامت به الأفراح، وارتحل الهمُّ

ولو نظر النُّدمان خَتْمَ إنائها ... لأسكرهُم من دُونها ذلك الختمُ

ولو نَضَحُوا منها ثرى قبرِ مَيِّتٍ ... لعادت إليه الرُّوح وانتعش الجسمُ

ولو طَرَحُوا في فيء حائط كرمها ... عليلاً وقد أشفى، لفارقه السُّقمُ

ولو نال قَدْمُ القوم لَثْمَ قِدامها ... لأكسبه معنى شمائلها اللثْمُ

هنيئاً لأهل الدير كم سكِرُوا بها ... وما شرِبُوا منها ولكنهم هَمُّوا

ودُونكها في الحان واستَجْلِهَا بها ... على نغم الألحان، فهي بها غُنْمُ

فما سكَنَتْ والهَمُّ يوماً بموضعٍ ... كذلك لم يسكُنْ مع النَّغَمِ الغَمُّ

يقولون لي صِفْها، فأنت بوصفِها ... بصيرٌ (٤) أجَلْ عندي بأوصافها عِلْمُ

صفاءٌ ولا ماءٌ، ولطفٌ ولا هوى ... ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسْمُ

فإن الشيخ ابن الفارض لما ادعى أنه تولَّه في حب الله جل جلاله، شبه الحب في تلعُّبه بالعقول بالخمر المسكر، فاستعار اسم الخمر للحب، ثم أخذ يفتَنُّ في ترشيح الاستعارة بذكر أوصافِ الخمر، وتناسي التشبيه، فذكر


(١) " ديوان ابن الفارض ": ص ١٧٩.
(٢) في (ش): " فيها ".
(٣) في (ش): " فإن ".
(٤) في " الديوان ": " خبير ".

<<  <  ج: ص:  >  >>