للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: هذا العذر أقبح من المعتذر عنه، فالجرُّ برأسه عليه السلام أهون من الظن فيه أنه رضي بالعجل شريكاً في الرُّبوبية لرب العز: جل جلاله.

الجواب الثاني: وهو التحقيق، وهو يشتمل على وجهين أيضاً:

الوجه الأول -وهو المعتمد-: أنه يجوز أن يكون الملك أتاه في صورة رجل من البشر، ولم يعرف أنه مَلَكٌ، مثل ما أتى جبريل عليه السلام إلى مريم، فتمثَّلَ لها بشراً سوياً، ولهذا قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: ١٨]، ولو علِمَتْ أنه جبريل عليه السلام، لما استعاذت بالله منه، وقد صحَّ تصور الملائكة على صُورة (١) البشر، وتواتر ذلك في الكتاب والسنة، فلما أتى ملَكُ الموت إلى موسى على هذه الصفة، وأراد أن يقتله، دفع موسى عن نفسه، وهذا الجوابُ وقع في خاطري، ثم وقفت عليه في الأول من " البداية والنهاية " (٢) لابن كثير منسوباً إلى الحافظ ابن حبَّان، وذكر أنه ورد عليه كما جاء جبريل عليه السلام في صورة الأعرابي، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط ولم يعرِفُاهم، قال: وكونه فقأ عينه موافقٌ لشريعتنا في جواز فَقْء عينِ مَنْ نظر إليك في دارك بغير إذنٍ، ثم قال ابن كثيرٍ: إنه لم يتحقق أنه مَلَكٌ؛ لأنه كان يرجو أموراً كثيرةً كان يحبُّ وقوعها في حياته من خروجهم من التِّيه، ودخولهم الأرض المقدسة.

وقال في ذكر نبوَّة يُوشع (٣): وقد ذكروا في السفر الثالث من التوراة أن الله تعالى أمر موسى وهارون أن يعدَّا بني إسرائيل على أسباطهم، وأن يجعلا على كل سبطٍ أميراً، ليتأهَّبُوا للقتال، قتال الجبارين عند الخروج من التِّيه، وكان هذا عدَ اقتراب انقضاء أربعين سنة، ولهذا قال بعضهم: إنما فقأ موسى عين الملك، لأنه لم يعرِفْهُ، ولأنه قد كان أُمرَ بأمرٍ كان يُرجى وقوعه في زمانه.


(١) في (ف): " صور ".
(٢) ١/ ٢٩٦، وانظر " صحيح ابن حبان " (٦٢٢٣).
(٣) ١/ ٢٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>