للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا وجهٌ جليٌّ لا غُبار عليه، موجِبٌ خروج الحق على كل تقديرٍ من يديه، وأما الآية الكريمة، فإنها دالةٌ على أن من أدَّى الأمانة في القنطار أولى بتأديتها فيما دونه، ومن لم يؤدِّها في الدينار أولى أن لا يؤدِّيها فيما فوقه، ولا يمكن الاعتراض فيها في كلا الجملتين. وبهذا يتميَّزُ القرآن وبلاغته على بلاغة (١) البُلغاء.

ولولا عصبية الشيخ في هذه المسألة، ما وقع في مثل هذا، مع إمامته في هذا الفن، فالله المستعان.

وبيان ذلك أنك لو عكست مثاله، وقدمت ما أخَّر، وجعلت الجملة الأولى مشتملة على الأمر الخطير كالآية سواء، انقلبت الحجة عليه، وخرجت الشبهة من يديه، وذلك هو الذي يعرِفُه كل منصفٍ، ولا يستطيع إنكاره بعد كشفه المتعسِّفُ، فالحمد لله الذي أنطق الخصم به، ليظهر التمثيل الصحيح من مثاله الذي اختاره، وارتضاه وطلبه (٢) وانتقاه، فنقول: مثالُ الآية المطابق الدال على قول أهل السنة: إن الأمير لا يُعطي القنطارَ، ويُعطي الدينار من يشاء، فها هنا (٣) لا يجوز إضمار المشيئة في الجملة الأولى بالإجماع، لعدم القرينة الدالة عليه، لا من اللفظ، ولا من العقل، كالآية سواء، إلاَّ أن المثال غير لائق، لأنه جعله في العطاء، لا في المغفرة، والله تعالى هو الرب الجليل المعطي لكل جزيلٍ، الملك الوهَّاب الرزاق لمن يشاء بغير حسابٍ، الذي لا يمنع العطاء والغفران إلا لما يعلم من جلب الصَّلاح ودفع الطغيان، وأمثال ذلك مما يُعدُّ (٤) من جملة الإحسان، ولا يقال مثل ذلك في فضله العظيم، وجوده الواسع العميم.

ثم إنه غير المقدر المضمر في تمثيله، فلم يجعله المشيئة أيضاً، بل جعله الاستحقاقَ، وهذا مشكلٌ عليه أيضاً، ملزِمٌ له أن تكون المشيئة برحمته عن الاستحقاق، وإذا كان كذلك، فلا مانع من أن يعلم الله تعالى استحقاق المسلم


(١) في (ش): " وبلاغة ".
(٢) في (ف): " وتطلبه ".
(٣) في (ش): " فهذا ".
(٤) " مما يعد " ساقطة من (ش).

<<  <  ج: ص:  >  >>