للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثالث: وهو التحقيق أن الدلالات تنقسم إلى دلالةٍ مُطابَقَةٍ، وهي اللغويَّة، ودلالة تضمُّن ودلالة التزام (١)، وهما عقليتان، فدلالة الإسلام على الإيمان دلالة تضمن أو التزام، لأنه إما بعضه كالرأس من الإنسان، أو شرطه كالوضوء والنِّيَّة من الصلاة، فمن ابتغاه، فقد ابتغى أساس الإسلام والدين الذي ينبني عليه، أو رأس الإسلام والدين، فهو مقبول، ولم يَصْدُق عليه أنه ابتغى غير الإسلام ديناً، لأن الدين في دلالة المطابقة اللغوية هو المجموع لا البعض، ومعنى الآية: من ابتغى ديناً غير الإسلام كاليهودية والنصرانية والمجوسية، لا من ابتغى فريضةً من فرائض الإسلام تقرُّباً إلى الله.

والذي غرَّهم أنهم لم يفهموا لقوله ديناً ثمرة، بل جعلوا وجوده كعدمه، وهذا لا يكون في كلام البُلغاء، كيف كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين.

ونظير هذا قولنا: من ابتغى غير العلماء قدوةً، أو غير الثقات راوياً، فقد ضلَّ، فإنه لا يلزم الضلال من ابتغاء غير العلماء والثقات خادماً أو زوجة أو بغلاً أو حماراً، فكذلك من ابتغى غير الإسلام مسجداً، أو وِرْداً، أو ذكراً، أو خشوعاً، أو تصديقاً، لم يلزم ألا يقبل منه، وإن لم يكن شيء من ذلك وحده يُسَمَّى ديناً كاملاً وإسلاماً تاماً.

فهذه الوجوه كلها على تقدير تسليم المقدمات كلها إلاَّ الأخيرة، وهي أن الإسلام هو الإيمان، ويكمُنُ النِّزاع في المقدمة الأولى، وهي قولهم: إن الدين هو مجموع العبادات، فإن ذلك ممنوعٌ، ودليل المنع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: ٥٤]. وقد أجمعت الأمة على أن من ترك بعض العبادات غير مستحلٍّ لذلك، فليس بمرتدٍّ.

إذا تقرَّر هذا، فيُحتَمَلُ أن للدين كمالاً، وهو المجموع، وأن يكون أقلُّه هو الذي حكم بِرِدَّةِ من تركه، ولئن سلمنا أن الدين هو مجموع تلك الأمور (٢)، لكن


(١) في (ف): " إلزام ".
(٢) " تلك الأمور " ساقطة من (ف).

<<  <  ج: ص:  >  >>