منه. ولهذا نصَّ العلماءُ على أنَّه إذا أفتى في المسألة مرةً، ثم سُئِلَ عنها مرة ثانية، فلا يخلو إمَّا أن يكونَ ذاكراً لطريقة الاجتهاد، جاز له أن يُفتي بفتواه الأولى أو ناسياً لها، لم يجز له أن يُفتي حتَّى يُجدِّد النظر، فدلَّ على أنهم يُجيزون أن تَرِدَ المسألة عليه، وهو لا يدري ما حكمُها هذا في المسألة التي قد نظر فيها وأفتى، فكيف بالمسألة التي لم يَسْمَعْ بها قطُّ.
وهذا مشهورٌ عندَ أهلِ العلم، وقد سُئِلَ ابنُ مسعودٍ عن مسألة، فما زال يَنْظُرُ فيها شهراً، ثم أجاب بعدَ شهرٍ كامل.
وقد يموتُ العالِمُ وهو متوقِّفٌ في المسألة، فقد بيَّض السيدُ الإِمام أبو طالب -عليه السلامُ- بعضَ المسائل في " شرح التحرير "، وكثيرٌ من العلماء المصَّنفين يموتُ وهو مبيِّضٌ في تصنيفه لمسائل. فقد رأيتُُ السَّيِّد أبا طالب يتوقَّفُ في غيرِ مسألة في كتاب " المجزي " ويمضي على التوقف المحض. وهذا بناءً على القول المنصور في الأصول: إِن التوقف في الحكم هو حكمُ المجتهد عند تعادُلِ الأمارات، وبناءً على جواز تعادل الأمارات في حقه. فلو كان التشنيعُ لمجرد العبارات مبطلاً للأحكام، لَبَطَل كثير من شرائع الإسلام، فكانَ لَا يَصِحُّ توقفُ المجتهد في الحادثة عندَ سؤاله عنها، لأنَّا في تلك الحال لا ندري كيف يُقال: هل يقولُ المجتهدُ للسائل: أمهلني أياماً قلائِل، فإن اجتهادي لَمَّا سَمِعَ بسؤالِكَ، أَبَقَ وأبى، وامتلأ غضباً، وأمعن هرباً، أو يقول: إن علمي بالحادثةِ ضاع منِّي وضلَّ، وخرج من يَدَيَّ وزلَّ، فما أدري أين ضلَّ، ولا أعْرِفُ أين نزل.
وهذا وأمثالُه إنما يليقُ ذكره في كتاب " سُلْوَانِ المُطَاعِ "(١) وكتاب
(١) اسمه الكامل " سلوان المطاع في عدوان الأتباع " تصنيف محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر الصّقلي المتوفى سنة ٥٦٧ أحد الأدباء الفضلاء، صاحب التصانيف الممتعة، =