للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلتُ: هذا مِنْ خيالاتِ قليلي العُقول، فإنَّ تعمدَ كذبِ الكاذبين إنما يظْهَرُ في أعصارهم لما يَصْحَبُهُ مِنْ معرفة مَنْ جاورهم وخالطهم وسامرَهم مِن قرائنِ أحوالهم، ومخايل كذبهم وتلوّنهم وحكاياتِهم، ومناقضاتِهم، ونسيانهم لما قالوه، كما قالت العرب:

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خلِيْقَةٍ ... وإن خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ (١)

بل كما قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: ٣٠] وكما شاهدنا هذا في معرفتنا لِلكاذبين المعاصرين لنا، فأما لو استتر حالُه حتى مات، ومات المعاصرون له، فإنها تنسَدُّ أبوابُ المعرفة لحاله على المستأخرين عن مُعاصريه إِلاَّ بِعلمِ الغيب، فمن أين جاء ذلك للإسكافي لو صحَّ عنه، وحاشاه منه بَعْدَ تفاني القُرون، وأبو هريرة محتجٌّ بحديثه بينَ الصحابة والتابعين، وفُقهاءِ الإسلام، وأهلِ العلم التام بتواريخِ الرجال، وأخبارِ الناس، وَمَنْ قَبِلَ مثلَ هذا في أبي هريرة ممن لا يُعْرَفُ مع ثبوتِ إيمان أبي هُريرة، وعدالتِه على عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُؤْمَنُ عليه، ولا يُسْتَبْعَد منه أن يُصدق من ذوي المثالب في علي عليه السلام أو في مَنْ هو دُونَه بيسيرٍ من أهل الفضلِ الشهيرِ، والمحلِّ الكبير. وقد ذكرتُ فيما تقدم أن أهل ذلك العصرِ كانوا خيرَ أهلِ الأعصار، وأن أشرارهم أصدقُ الأشرار حتى إنَّه ثبت عن اليهودي ابنِ صياد اللَّعين المُدَّعي للنبوة في عصره عليه السلامُ لما سألَه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خصمُه ما يأتيه قال: يأتيني صادِقٌ وكاذب (٢)، فاعترف بكذب بعضِ ما يأتيه بُعداً من


(١) هو البيت الثامن والخمسون لزهير بن أبي سلمى من جاهليته السائرة " شرح القصائد العشر " ص ١٩٨ للتبريزي.
(٢) انظر خبر ابن صياد مطولاً من حديث ابن عمر في البخاري (١٣٥٤) و (٣٠٥٥) و (٦١٧٣) و (٦٦١٨) ومسلم (٢٩٢٤) و (٢٩٣٠) وأبي داود (٤٣٢٩) والترمذي (٢٢٤٩)، وانظر " جامع الأصول " ١٠/ ٣٦٤ - ٣٦٩ الطبعة الشامية.

<<  <  ج: ص:  >  >>