فإن قلت: فما مثالُ قياس السَّيِّدِ الأول في الأقيسة الغِلاطية المركبة بالتراكيب المنطقية، أهو مثلُ هذا القياس الذي فرغنا منه أم هو نوع آخر؟
قلتُ: بل هو نوع آخر، وذلك أن وجهَ المغالطة في هذا الذي فرغنا منه مصاحبةُ الحق والباطل، وتقاربها في اللفظ الطارق لسمع الأبْلَهِ الغافل، وأما ذاك، فهو مِن قبيل الباطل المشابه للحق في بعض الأمور غير المصاحب للحق، وذلك أنَّه نَسَبَ إلى الجبرية أنَّهم يعتَقِدُون أنَّه يجوزُ على الله تعالى العقابُ على الحسن، والثوابُ على القبيح، ونسبة هذا إلى اعتقادهم باطلة محضة لم تُصاحب شيئاً من الحق، ولكن فيها شبه بعيدُ منه، وذلك أن هذا يلزمُهُم على بعض قواعدهم، ولما كان يلزمهم ذلك شبهة في نسبته إليهم، وذلك أنَّه يُوجب أن بينهم وبينَ هذا القول ملابسة، ومثال ذلك في الأقيسة الغِلاطية المنطقية قول القائل: كل زَرَافَةٍ فرس، وكل فَرَسٍ صاهل، لينتج أن كُلَّ زرافة صاهل، فالمقدمةُ الأولى هي قولُه: كل زرافة فرس باطل محض لم تَصْحبْ شيئاً من الحق، لكن بين الزرافة والفرس شَبَهٌ بعيدٌ يجري المغالط على الطمع في الاستنتاج مِن ذلك، وذلك الشبه هو أن رأسَ الزَّرافَةِ مثلُ رأسِ الفرس، فلما كانَ بينهما ملابسة ما كان قولُه: كلُّ زرافة فرس من الباطل الذي أَخذَ من الحق شبهاً ما، فَصَلُحَ إيرادُه في الأقيسة الغِلاطية. فهذا وأمثالُه كثيرُ الوقوع في الأقيسة والمناظرات، ونقَّادُ النظر يُمَيِّزُونَ الخالصَ من الزيف، والخبيث مِن الطيب.
وقوله: فإن قالوا هذا من جِهة العقل، لكن قد وَرَدَ السمعُ بأنه يدخل المطيعُ الجنةَ، والعاصي النار إلى آخره، إشارة منه إلى مذهبهم المعلوم، وتعرض لمحاولة إبطاله.