وقبل الجواب عليه نذكر مقدمة وهي أنه لا شك عند جميعِ الفرق من أهل الإنصاف، وأهل العنادِ أن الجبرية يذهبون إلى أن الله تعالى قد وَعَدَ المؤمنين المطيعين بجنته ورِضوانه، وتوعَّد على ارتكاب المعاصي والمحرمات بعذابه وبغضبه، وأن وعدَه ووعيدَه صادق لا خُلْفَ فيه، ولكنهم يعتقدون أنَّ ذلك مستند إلى الدليل السمعي دونَ العقلي، ولا شكَّ أيضاًً أن الدليلَ السمعي قد ورد بذلك، فثبت أنَّه لا خلافَ بينَنَا وبينَهم في أن الله صادقٌ في وعده ووعيده، وإنما اختلفنا في وجه الاستدلال على ذلك، فقلنا: ذلك ثابتٌ بدليل العقل القاضي بوجوبِ صدق السمع، وهم قالُوا: ذلك ثابت بدليل السمع الواجب صدقُه بدليل العقل، فالخُلْفُ في كلام الله، والتعذيبُ لأولياء الله ممنوع عندنا وعندهم، ومن قال: إن الشيء ممنوع بدليل السمع لم يلزمه أن يعتقِدَ جوازَ ذلك الشيء على الإطلاق، ألا ترى أن مذهبنَا أن نِكَاحَ الأُمهات والأخوات، وتركَ الصلوات وتركَ الزكوات جائز عقلاً، ولكنه حرام شرعاً وليس لأِحَدٍ أن يَنْسِبَ إلينا القولَ بجواز ذلك على الإطلاق، فكذلك الجبريةُ إذا قالوا: إن الله لا يُعذب المطيعينَ بدليلِ السمع لم يَحِلَّ أن يُقال: إن الله يجوز أن يعَذِّبَ المطيعين على الإِطلاق، وهذا واضح لا يخفي على المنصف.
قال الغزالي في كتاب " الاقتصاد في الاعتقاد ": وقد ذكر أن ثوابَ المطيعين تَفَضُّلٌ مِن الله تعالى، وليس بواجب حتى قال: إلا أن يقال: إنه يصير وعدُه كذباً وهو محال، ونحن نعتقد الوجوبَ بهذا المعنى، ولا ننكره. انتهى. ونصوصُهُم على مثل هذا واضحة، فلا نُطَوِّلُ بذكرها.
فإن قلتَ: إن بينَ الأمرينِ فرقاً، فإن نكاحَ الأمهاتِ والأخواتِ، ووجوبَ الصلوات والزكوات مما لا يُعْرَفُ بالعقل، وإنما يُعرف بالشرع،