في محيطه ثم يستعد لان ينفع نفسه ويحيى حياة تامة. ولما كأنت التهذيب العقلي وسيلة لمعرفة طبائع الأشياء وجب توسيع نطاقه مهما امكن فلا يجوز للفرد أن يتخذ جزء منه ويغفل أجزاء ولعل هذا من نقائض الأساليب الحاضرة في تعلم الصنائع. فإن العلم ببضعة من المظاهر الطبيعية مع جهل سائرها قد يؤدي إلى سقطات فادحة في ابداء الأحكام في أحوال الموجودات وقد يتعذر بقاؤه في الذاكرة.
ثم أن لكل شئ وكل عمل في هذا الوجود روابط تربطه إلى ظواهر الكون على تباين صنوفها فمنها ما هو رياضي ومنها ما هو طبيعي ومنها ما هو كيماوي ومنها ما هو حيوي وهذه الظواهر جميعها مشتبكة بعضها ببعض حتى أن العلم التام بجملة منها يقتضي العلم بمبادئ بقيتها. وقد يستغرب بعضهم من الحث على توسيع التهذيب إلى هذا الحد ويخيل لهم أن ذلك لا ضرورة تدعو إليه على أن تعميم التهذيب على هذا الاسلوب يمكن الفرد من إدراك حقائق كل علم على حدته دع عنك ما فيه من إدراك النتائج الأصليه التي تتفرع عن هذه الحقائق ولا يجب عليه أن يبحث عن تشعباتها ونسبها وتفاصيلها فليس ذلك من شانها وبعد أن يقف على مبائ العلوم باسرها يصبح ذا المام بمظاهر الكون جميعها وإذ ذاك يكون قد استعد استعدادا تاما للاخصاء فيصرف نفسه إلى جملة من ظواهر الطبيعة ويعمد إلى درسها واتقانها.
نرى من هذا أن الاجتماع نفسه يحث على التهذيب العقلي من وجه مضمن لأنه كلما عظم شانه سهل أمر معاش الفرد والاسرة. وبالجملة استدر المجتمع النفع العام. وهنالك وجه آخر ظاهر يؤيد التهذيب العقلي على أنه ليس له علاقة بالحياة العملية وهو مستقل عنها كل الاستقلال وهاك ما نقصد على سبيل الايضاح: - أكثر البشر لا يدركون عظمة الكون وذلك لقلة مادة العلم وكساد بضاعة التهذيب بينهم فالخادم وصاحب الحانوت وحامل العلم والأديب جميع هؤلاء لا يدكون عظمة مافي هذا الوجود من حي وجماد ولا يدكون ما يستطيع إدراكه ناس انقطعوا إلى درس حركات الطبيعة وظواهرها. هؤلاء يقدرون أن يبحثوا في دقائق الطبيعة ويسرحوا مخيلتهم في الكون بعد أن يكونوا قد اقصوا عن عقولهم المباحث والخواطر التي تتعلق بالحياة العملية. تصور ردهة مزدانه حوائطها بانوع الزين وقد دخلت إليها في جنح الدجى ولم يكن فيها الا شمعة منارة موضوعة بقرب زاوية في