كانت هذه الحاضرة في جميع أدوار تاريخها محطّ رحال أرباب الصّنائع المختلفة لأنّها أمّ هذا القطر والأقطار التي تليه والأمّ مصدركلّ خير في العائلة. ولقد أُصيبت مصنوعاتها كما تُصاب البلد عادةً بأنواع الاضمحلال وخصوصاً في عهد تيمورلنك الذي خرّب كل بلد عصا عليه واستصحب معه إلى سمرقند أرباب الصّنائع قال ابن عربشاه أخذ تيمور من دمشق أرباب ألفضل وأهل الصّنائع وكلّ ماهر في فن من ألفنون بارع من النّاجين والخيّاطين والحجّارين والنّجارين والإقباعيّة والبياطرة والخيميّة والنّقّاشين والقوّاسين والبازدارية وفي الجملة أهل أي فن كان
فتراجعت الصّنائع بعد ذلك العهد في قاعدة البلاد ولم يبقَ منها إلا ما لا غنيةعنه لأهل كلّ بلد مهما انحطّ عمرانه وتفرّق سكّانه. وكانت الصناعات تبعاً للحالة العموميّة إن راقت السّياسة وصفا جوُّ السّلام تكثر حاجيّات الناس فيوجد لها العملة وصنّاع الأيدي بطبيعة الحال وإن كان على ضعفٍ أحياناً والعكس بالعكس. وكانت الصّناعات الدّمشقية تجد في القرن الماضي رواجاً أكثر وإتقاناً أوفر لولم تنازعها مصنوعات أوروبا بلطافتها ورخصها ومنشأ الرّخص استمتاع الأجنبيّ إذ ذاك بامتيازاته فكانت الكمارك التي يؤدّيها على بضاعةٍ قليلة والضّرائب معفى منها جملةً وحقوقه رعية في الحكام ولو كان هو على باطل وخصمه العثماني على حق وقد يحكم له لا عليه أحياناً وبهذا قضي أو كاد على صناعاتنا الوطنية ووقفت مصانعنا الوطنيّة العثمانية
ولما نشبت الحرب العامّة انتبه رجال الدّولة للأمر وعرفوا الدّقيق والجليل من نواقصنا فكانت مسألة مصنوعاتنا من أوليّات المسائل التي نظروا فيها فألغوا الامتيازات الأجنبيّة وهناك أخذت تعود إلى مصانعنا بعض حياتها وستقوى أكثر بعد الحرب ثمّ كان منهم أن جمعوا شمل الصنّاع في كلّ مركز من مراكز السّلطنة كما فعلوا في دار الخلافة وضواحيها مثلاً فأخرجوا لوازم الجيش من سلاح ومدافع وقنابر وقذائف وأجواخ وغيرها وجاء حظّ هذه المدينة بعد حظّ الأستانة فجمع الجيش الرّابع فيها شمل الصناعات بعد تشتّتها واستفاد من كلّ قوّة كانت كالنّار مخبوءةً تحت الرّماد لا تحتاج إلاّ إلى يد صادقة حتّى تهتدي إليها