للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رحلة إلى قلمون الأسفل]

على أربع ساعات من شمالي دمشق واد منبسط بين جبلين متسامتين طوله من سفح ثنية العقاب إلى مزرعة الناصرية لا يقل عن ست ساعات وعرضه ساعتان تربته بيضاء ورباعه مخصبة ومياهه موفورة بحيث لو حفرت عشرة أذرع أو أكثر ينبط الماء غزيراً مع أن الجبلين المتناوحين من شمال الوادي وجنوبه لا شجر فيهما ولا غابة تزينهما.

ولو كانا مغروسين بالسنديان والزان والبلوط والشوح لكان هذا الوادي بأمطاره الغزيرة وريه المتواصل أشبه بأخصب السهول الشندشية ولذا كان جبل قلمون ضعيفاً بريه وإن لم يكن كذلك بزكاء تربته والمعالي والأسفل أو التحتاني منه متشابها وإن كانت سهوله أخصب من آكامه وتلعاته ومياه الأعالي أعذب من مياه الأسفل. وفي قلمون الأسفل من القرى والأمهات ما يطلق على أمثاله في ديار الغرب اسم بلدة وذلك مثل الرحيبة وجيرود والمعظمية والقطيفة وضمير وكلها ذات تاريخ قديم وعمران طبيعي وهي بكثرة نفوسها يزيد عمرانها اليوم كلما انبسط السلام فيها وأمن أهلها على مواشيهم من غارات أشقياء الصفا وجبل الدروز المجاورين لهم من جهة الجنوب والجنوب الشرقي على مسيرة يوم من هذه البلاد.

ولقد كان عرب الصفا واللجاة وجبل حران يغزون من سنين أهل قرى القلمون الأسفل في عقر دارهم ويرعون زروعهم وينهبون ناطقهم وصامتهم ولذلك ضعف عمران تلك الديار حتى على قيد غلوة من القصبات والدساكر فأصبحت إلا قليلاً مزارع حقيرة ومداشر. وقلت الأشجار فيها حتى في ضواحي الثرى وعلى شواطئ الجداول والأنهار لأن الفلاح أصبح لا يفكر إلا في رزق سنته فإذا نجا عامه من شرور النهب فهو سعيد آمن وإلا فيقضى عليه أن يعيش في فقر ليس بعده فقر وذلة هي الموت بعينها أو يهيم على وجهه إلى إقليم آخر يكون أقرب إلى الأمن والأمان يطلب معاشه بالعمل مأجوراً وكان يستطيع أن يعيش أميراً من أرض أورثه إياها آباؤه وأجداده لو كان له حكومة تفكر فيه وتدفع عنه بوائق الدهر وعواديه وتعرف أن ما تتقاضاه إياه من الضرائب والإتاوات ليس إلا لتحميه.

ومن الغريب أن الأمن ما كاد يرفع رواقه في هذه الديار وتنتظم أصول الإدارة بالنسبة لما عليه في القرن الماضي مثلاً حتى سرت إلى الأهلين هنا نغمة الهجرة إلى أميركا فغدا هذا الجبل بمن هجره شقياً وكان يسعد بهم لو توفروا على خدمة أرضه واستثمار شجره