ليعلم أن من المسائل الجديرة بالعناية وبذل الجهد للوقوف على ما قيل فيها وكتب عنها (مسألة الجن) فقد تنوعت في شأنها المشارب وتعددت في مباحثها المذاهب وكان للأعراب معها في الجاهلية مخيل ولها في كل عصر نغمات جديدة وعجائب ولا غرو فهي من أقدم المسائل وأرسخها في الأذهان إذ دار اسمها على كل لسان وورد ذكرها في جماع النحل والأديان.
إن مسألة كمسألة الجن ليست مما تدرك بلفظة أو يشار إليها بلحظة حتى لا يرفع لها الحشوي رأساً ولا يقيم لها الجامد وزناً فلو صمت شواردها وقيدت أوابدها وانتظمت فرائدها لعثر على الجم من الطائف الفائقة والنوادر الرائعة مما يملك السمع والبصر إعجابه ويرتفع عن القلب للإصغاء حجابه.
كل مسألة لا يتناولها الفهم في بداية النظر ولا يصل إليها إلا بالاستعانة من درس أمرها وسبر فلا بد من بحث عنها وتنقيب واستقراء وتنقير لا سيما أن ثلث ذات شعوب وأطراف وفروع وأوصاف لا جرم ينبغي استقراؤها وتعرفها واستجلاؤها اكتشافاً لما خبأته كنوز الحقيقة ووقوفاً على كل جليلة دررها ودقيقة.
أكثر من ألف في العلم الإلهي أو ما وراء المادة تكلم في (الجن) فموجز ومسهب ومقارب ومغرب والواقف على ما كتبه فلاسفة الإسلام يراه قريباً مما نحاه علماء أهل الكتاب في شأنهم اللهم إلا في خيالات شط بها البحث فبعدت عن القصد شأن كل شيء جاوز حده.
من استقرأ ما كتب وبذل جهده في التنقيب يمر به من علوم الأوائل ما يغني عن زهر الرياض حسنه وعن فتيق المسك نشره فمن تأمله ازداد حرصاً على تأمله وتصفحه مستعيداً ما يستحليه من فوائده.
الطريقة المثلى والخطة الوسطى هي أخذ المهم وإيثار الأجود من كل شيء وهذا ما توخيناه في هذه المسألة مما طالعاناه وإلا فسعة علم السلف مما يدهش الخلف فليس لنا إلا المختار من آرائهم والمنتقى من أنبائهم ولله ابن المقفع إذ قول فمنتهى عالمنا علم في هذا الزمان ـ زمانه رحمه الله ـ أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم.
إن استقصاءَ ما للقدماء في (مسألة الجن) واستقراءه كله يعوز إلى عدة مجلدات وسعة