لا يذهب عليك أن مثل هذه الصحف الخبرية وأوراق الحوادث الدورية، ليس من شأنها أن تختص بأمة معلومة من الناس، على رأي واحد من الاعتقاد، في بقعة مخصوصة من الأرض، حتى يتيسر لصاحبها أن يتقيد بعوائدهم، ويبني على قواعدهم، ويراعي ما يكون موافقاً لعقائدهم، بل الشأن فيها أن تنتقل من بلد إلى بلد، وتتداول من يد إلى يد، بين أقوام مختلفي الطباع، متبايني الأوضاع، متخالفين في العقائد، غير متفقين في العوائد، فالإتيان بما يوافق جميع الآراء، ويطابق عامة الأهواء، توفيق بين الأضداد، وأصعب من خرط القتاد، وإنما هي كالمطر ينزل على الأرض الطيبة والخبيثة، ثم تنبت كل بحسب طينتها، وكالمغني يقول ما ينطق به لسانه، وينبعث إليه خاطره، ثم كل سامع يذهب فيه مذهبه، ويأخذه على حسب ما عنده، ويتوجه منه إلى ما قصده، ويوجهه لما أراده، على وفق غرضه وهواه، وعلى حسب نظره ومرماه، وكالبضاعة المعرضة للبيع المعروضة على أنظار العامة، يأخذ منها كل واحد ما يعجبه ويستحسنه نظره، فربما كان الشيء الواحد مستحسناً عند واحد من الناس لوجه مخصوص مذموماً عند آخر لا يذمه إلا لذلك الوجه الذي استحسنه به الأول.
والعاقل الكيس يستفيد من كل كتاب يراه ما يرضاه ويدع ما وراءه مما يجده خلاف ما يعتقده ولا يدع كثيراً ينفعه لقليل لا يضره. هذا تفسير الكشاف فيه مواضع من الاعتزال أفيترك اللبيب المحصل من أهل السنة ما فيه من المزايا الجمة، والفوائد المهمة، والأسرار التأويلية، لما معها من تلك المواضع الاعتزالية، لا بل يستفيد محاسن ما فيه، ويترك ما وراء ذلك مما لا يرتضيه، ولذلك عكف عليه المحصلون، واعتنى بخدمته العلماء العاملون، بل عدّ في مناقب بعض علماء السنة السنية، أنه عكف عليه أحقاباً مديدة من الدهر، وصرف عليه مدة طويلة من العمر، اغتناماً لما فيه من العلم النافع، ولم يتركوه من أجل تلك المواضع، ومصداق ذلك ما ورد من أن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها فهو أولى بها كما قيل:
إن العلوم كأثمار على شجر ... فاجن الثمار وخلّ العود للنار