أخذت الأمة تنصبغ بصبغة الغربيين منذ أنشأت تأخذ العلوم عنهم وتختلط بالخاصة والعامة منهم. ومن ذلك إجلال رجال العلم والأدب أحياء كانوا أو أمواتاً. فقد بدأت في الشتاء الماضي بتأبين المرحوم فقيد الأدب محمود سامي البارودي وتلاوة القصائد والخطب على ضريحه يوم دفنه وأربعينه وثنت بتأبين حكيم الشرق الشيخ محمد عبده تأبيناً لم يسبق له نظير كما احتفلت في الصيف المنقضي بمترجم الإلياذة العالم سليمان أفندي البستاني. كل ذلك جرى في هذه العاصمة وهي مبعث العلم من بلاد الشرق العربي وثمال الأدباء وعصمة العلماء.
ولقد شهدت في النصف الأخير من ذي القعدة حفلة ثانية من تكريم الأحياء للأحياء أقامها جماعة من السوريين في نزل كونتننتال احتفاء بشكري أفندي غانم ناقل رواية عنترة إلى الفرنسية والشاعر المجيد بلغة الفرنسيين. وهو من أهل سورية غادر بلاده منذ ٢٥ سنة وصرف معظمها في الديار الفرنسية. فحضر الاحتفال نحو ثلاثمائة رجل من علية المصريين والسوريين والفرنسيين وغيرهم وتليت خطب وقصائد بالعربية والفرنسية فاض منها معين بلاغة العرب والعجم فتكلم بالعربية سليمان أفندي البستاني ومصطفى باشا كامل وخليل أفندي مطران وعبد الفتاح أفندي بيهم وأسعد أفندي داغر وبالإفرنجية يوسف باشا شكور والمسيو البان ديروجا وأيوب أفندي كميد وداود بك عمون وصاحب الحفلة.
احتفلوا بأديب خدم الأدب الإفرنجي. ولما كانت الأمة لم تبرح بعد في طفوليتها من حيث نهضتها العلمية فلا يزال احترامها مقصوراً على الأدباء في الغالب. وقد اذكرني هذا الاحتفال بما كان يجري من أمثاله في عصر الحضارة الإسلامية أيام كانت الأمة مدة العباسيين تكرم العلماء والأدباء كيف كانت نحلتهم ولغتهم. وكان هؤلاء يتحابون ويتآلفون كالأخوة من غير حرج ولا نكير. ومن قرأ كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي يتجلى له أن العلم يجمع بين المتباعدين وإن كل من خمره العقل وعجنه التهذيب وخبزه العلم يتمسك بالجوهر ويطرح العرض وينظر من الأشياء إلى مقاصدها ومغازيها.