بين هذا الجيل الناشئ نفرٌ لم يكتب لهم الوقوف على حضارة المشرق وآدابه بل غاية ما وصلت إليه أفهامهم من البحث والتدقيق أخذهم بغشاء العلوم الغربية الحديثة فقط فراحوا وهم ثملون بحثالة تلك الثمالة يهرفون بما لا يعرفون زاعمين أن المشرق وحده منبعث الأعمال البربرية كما أن البعض حتى من علماء المغاربة يصورون الشرقي ذلك الغر المجرد والعربي ذلك الذي يخوض بحاراً من رمال محرقة وأشعة الشمس المذابة قطراتها تتصبب عليه فتصهر رأسه في فضاء صحاري جرداء تكاد لا تتناهى. . .
ولو تهيأ لذلك العربي ما تهيأ للغربي من التربية والبيئة (المحيط) وتكاثر الوسائل والوسائط ما كان مدعاةً للتأثير في أخلاقه وأفكاره وخيالاته وقوته العقلية وطبيعته الحيوية الخ. . . . لاستعاض عن ظلال الخيام التي كان يستحضر في زواياها بدور الكيمياء ذات البنيان الضخم والمعامل الكبيرة ولكانت له ضفاف الأنهار مباءة يتفيؤ ظلالها الخضراء.
ولقد رأينا العرب لما اختلفت عليهم مؤثرات التربية والبيئة وأنشاؤا يدوخون الممالك ويمصرون الأمصار أمة ناهضة بلغت في التحضر والتمصر شأواً بعيداً وضربت في المدنية والعمران بسهم وافر. ونبغ بين ظهرانيهم من الدهاة من ألفوا في العلم والاجتماع والأدبيات على اختلاف ضروبها فبرز الكندي وجابر الكوفي والطوسي وابن رشد وابن سينا والفارابي وابن أبي أصيبعة والسمرقندي في الرياضيات والطب والفلسفة والغزالي والرازي وابن حزم وابن باجة وابن خلدون والمتنبي والمعري في الاجتماع والتاريخ والأخلاق والشعر وأخذ العظماء من الأمراء يسرفون في إنشاء معاهد العلم في بغداد وسمرقند والشام والأقطار الأخرى وعهدوا وظيفة التعليم إلى من تأفقت شهرتهم في العلم في ذلك العصر مما يدل على نهضة علمية كبرى نشأت في المشرق بقي من آثار القائمين بها أطلال بالية ومن نتائج قرائحهم بقايا ملئت بها مكتبات المشرق والمغرب على كثرة ما عداها من عوادي الأيام.
ألا وإن الأمم تسير في تقدمها وتأخرها على نواميس عامة قد لا تختلف في الغالب إلا بقدر الاستعداد الفطري وتأثير الإقليم. وما يصح أن يقال عن تلك الأمم من الأعمال البربرية أن