لم تحرز ألمانيا التفوق الباهر على الشعوب المتمدنة في فروع العلم والصناعة إلا بفضل انتظام جامعاتها وارتقاء كلياتها فهي تتجدد على مرور الزمان وتتطور بأطوار العصور وتراقب الاختراعات والاكتشافات في جامعات أوربا وأمريكا الكبرى فتناظرها وتنافسها فهي تبعث كل عام في العطلة المدرسية بوفود علمية مؤلفة من فحول العلماء والأساتذة ومعهم فريق من نوابغ التلامذة ونخبة أذكيائهم للطواف في عواصم العالم المتمدن والتفتيش عن نظامات دور العلم والصناعة والمجامع الأدبية والفلسفية والطبية والمحافل المالية والاقتصادية وذلك لاقتباس ما يناسب الروح الألمانية فتعود البعثة مزودة بأجد الأفكار وأحدث الأطوار وتطبق حينئذ العلم على العمل وعلى هذه الطريقة ترسخ أقدام التجدد في تلك الكليات التي أصبح لها ألفضل العظيم في تكوين الوحدة الألمانية، وتشييد أركان هذه الإمبراطورية الواسعة التي أرهبت العالم بقوتها وصوتها وامتداد سلطانها في قلب القارة الأوربية بعد أن كانت شعوباً متفرقة وإمارات متشتتة ومعرضة لإطماع ألفاتحين والغزاة من القياصرة والملوك. قال بسمارك في حديث له مع أحد المكاتبين الحربيين في حرب السبعين أن ألمانيا لم تنتصر على فرنسا في ميادين القتال والنزال إلا بفضل النظام ناشئتها ورجاحة عقول شبيبتها التي أدركت المنافع الوطنية من طريق المدرسة وعرفت أن حياة الافتراق والانشقاق لا تفرق كثيراً عن الموت الحقيقي والانقراض الطبيعي فليست مهارة القواد الألمانيين وكثرة الجيوش وقوة السلاح هي التي نصرت ألمانيا على عدوتها بل المدرسة الألمانية والعقل المدني هو الذي عقد ألوية النصر والفوز على رؤوس الألمانيين فالحروب الحديثة لا تأثير السلاح والكراع فيها وإنما العامل الوحيد للانتصار فيها هو العقل والتربية والنظام ونمو الروح الوطنية وفي الحقيقة أن ألمانيا لم تكن على جانب كبير من العلم والتمدين يوم اكتسحا نابليون وأخضعها لسياسته وجبروته فقد كانت حينئذ ميداناً للفتن وكان الخصام والنزاع والبغضاء سائدة مستحكمة في قلوب أمرائها وملوكها فلما أنشئت المدارس في أرجائها وشيدت الدارس في أمصارها وأقطارها وأشرقت شمس العلم والعرفان في البلاد أصبح من الخزي والعار أن يخضع الألمان لأجنبي فاتح فكان من آثار تلك النهضة العلمية نهضة سياسية أثمرت الوحدة الألمانية وأعقبها انقلاب عجيب في العلم والصناعة والتجارة والزراعة.