قد يظن بعض من لا عهد لهم بحالة العرب أيام حضارتهم أنهم كانوا كعرب البادية اليوم لا يكادون يعرفون الأمور الصحية ولا تدبير البدن وأنهم كانوا يسيرون متشبعين بفكر القضاء والقدر إن هلكوا قالوا قضاءٌ وإن عاشوا قالوا قدر. والحقيقة إن القوم كانوا على عناية أكيدة بأمور الصحة وما بقي من كتبهم القليلة المحفوظ بعضها في دور الكتب في الشرق والغرب والمطبوع بعضها يدل دلالة كبيرة على ذلك وأقرب سبيل للإشراف على عناية العرب بتدبير الصحة أن يرجع القاريء إلى كشف الظنون فيرى الكتب التي ألفت في هذا الفن بل إلى تراجم الأطباء في القرون الأولى للإسلام ويقرأُ في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أسماء الكتب التي صنفوها في تدبير الصحة فقط.
وقد ظفرنا في خزانة كتب السيد أبي الخير عابدين من جلة فقهاء دمشق بكتاب مصالح الأبدان والأنفس لأبي زيد البلخي ولعله الجغرافي المؤرخ المشهور في القرن الثالث: والقطعة مقتطعة من كتاب للمؤلف تغلب عليها الصحة فأحببنا نقله للمقتبس لأن معظم ما تكلم فيه من المصالح كأنه كتب في هذه الأيام قال المؤلف:
تذكرة مقتضبة على سبيل الإيجاز والاختصار من كتاب أبيزيد البلخي رحمه الله تعالى المسمى مصالح الأبدان والأنفس تجنبنا فيه بسط أبي زيد وتطويله وإن كان ملذاً غير مملول ومعسول اللفظ غير مغسول إلا أنا ملنا إلى ما يدركه الحفظ وتقصر في الإحاطة به مساهمة اللحظ وبالله التوفيق والإعانة. . .
باب الحاجة إلى تعهد الأجسام وما في ذلك من استدامة الصحة
إن الجسد يحتاج في تعاضد أركانه وتماسك أجزائه إلى تعهد شديد وتفقد بليغ والنفع في ذلك بين أثره عند من دق نظره. ومثاله ما نراه من حال النمو في الأطفال وأنه يتدرج على ترتيب يخفى عن الحس إلى أن يبلغ غاية التمام والشباب ثم يولى تولية تلطف عن الإدراك حتى يجتمع فيه من أحوال الانتقاض والانتقاص ما تكون جملته محسوسة وإن لم يحسن تفصيله فذلك منفعة التعهد ومضرة الإهمال في خفائهما أولاً ثم ظهورهما أخيراً.
باب في تدبير الأهوية والبلدان
كما يسافر الناس لطلب المعاش فلذلك يجب أن يسافروا لطلب المنازل المحمودة والبعد من