أصبح أفقر البائسين لعدنا في مأمن من الجوع على أن المتوحش لا يزال عرضة للمجاعة لا لأن الطعام المدخور عنده قليل بل لأنه يجهل الزراعة وتربية الماشية وتختلف موارد عيشة من الصيد والقنص كثيراً إذ ليست أبداً منه على طرق الثمام. وما مثل المتوحش إلا كالجوارح الكبيرة من النمر والفهد يصيد الصيد تلذذاً بالقتل وهو لا يحسب للغد حسابه ولما كان على جهل بطريقة تجفيف اللحم والتقديد أصبح من الصعب عليه أن يدخر اللحوم لأوقات القلة. وهناك أمورمن الخرافات المضحكة تزيده بلاء وذلك أنه يرى بعض الحيوانات مقدسة ويعتقد أنها اجداد قبيلته فإذا رآها اتخذها طوتمه وحاميه ويعد نفسه إذا قتلها كلها بأنه خرق الحرمة وعبث بأقدس المقدسات. يتقزز المتوحش من جميع الأطعمة التي لم يعتد تناولها قد فإن تغذى بلحوم الصيد تأنف نفسه من تناول السمك وإن اغتذى من السمك يعاف اللحم. ومع هذا تراه يعمد إلى اختيار الأطعمة الغليظة. إن جاع عمد إلى الحبوب البرية والجذوع الخشبية واسترط الحشرات والديدان وأخذ القمل عن أخيه يقضمه. ومعلوم أن لا شيء يخلو من صوالة مغذية حتى التربة الصلصالية التي تغتدي منها ديدان الأرض أحسن تغذية والإنسان يسير على مثالها فيكون من أكلة التراب ولكن أمعاءه لا تهضمها فينتفخ بطنه ويحدث التهاب في الأحشاء يكون منه الموت.
إذا أسعد المتوحشين الحظ فقتلوا حيواناً كبيراً أو صادوا سمكة ضخمة يقعون عليها كالحيوانات الجائعة. فقد وصف لنا أرباب الرحلات شراهتهم الحيوانية فإن الصانيين من قبائل الهوتنوت في أفريقية الشرقية إذا ضربوا فرس بحر يفتحون جثته وهو حار ويأكلون أحشاؤه كما تأكلها الكلاب. وإذا سقط حوت على الشاطئ يخف سكان أوستراليا الجياع عراة كيوم خلقوا وينغمسون في الدهن ويبلعون قطع الحوت الكبير بلعاً ولا يرجعون عنه إلا وقد امتلأت كراشهم وشبعوا وانتفخت بطونهم فينامون بعد ذلك طويلاً. بيد أنه لا يجب علينا أن نسخط مما يبلغنا عن أولئك المنحطين في سلم المدنية فإن فلاحينا يأتون في ولائمهم من الإكثار من الطعام والشراب ما لا يقفون فيه عند حد ولولا أن أنواع الأطعمة