من تأمل في تاريخ الطرق الخطابية ير أن القدماء أفرطوا في فن الخطابة وأنه وإن صعب العثور على مبدأ معين في كتب الأقدمين وطريقتهم في خطاب الجمهور فإن جميع المصنفات التعليمية تحوي إبهاماً خلطوا فيه بين علم الكتابة وعلم الكلام فإن علم الخطابة لم يكن في نظر القدماء هو علم التكلم والإلقاء بل علم تحسين الكلام وتنميق الإنشاء ومن تلا كتاب الجمهورية لأرسطو وفيه مباحث جليلة في الخطابة عند اليونان يتجلى له أن جميع خطباء آثينة كانوا ينمقون العبارات قبل أن يتلوها وتتراءى لهم من خلال سطورهم آثار التعمل والاستعداد قبل إلقاء خطبهم على مسامع الجمهور وإذ كان يحظر على المحامي في آثينة أن يدافع عن غيره اضطر بلغاء اليونان أن يكتبوا خطبهم في الدفاع ويعطوها لغيرهم يستظهرها ليلقيها ولذلك قل المرتجلون من الخطباء في يونان وأن وجدوا فهم على ندرة.
قال بعض المعاصرين لو لم يكن خطباء الأقدمين يهيئون خطبهم قبل إلقائها ما كان بقي لنا من كلامهم إلا النزر اليسير وذلك لأن فن الأختزال لم يكن يعهد إذ ذاك بيد له مما لا شك فيه أن بعض خطباء اللاتين
الذين وصلتنا خطبهم قد ألقوها بدلاً من أن يستعدوا لها بكتابتها وكان من العادة أن يعود الخطيب عندهم فيدون بالكتابة ما قاله من خطاب كما فعل شيشرون في بعض خطبه والحق الذي لا مرية فيه أن الخط طالما اعتبر في اليونان ورومية بأنه الأسلوب الوحيد في الحملة لإعداد الكلام ليلقى على المسمع العام ويجب أن يلاحظ أن الخطيب الآثيني مهما بلغ من ثقته بنفسه لم يكن يجسر أن يقف موقف الخطابة قبل أن ينظر نظراً بليغاً فيما سيلقي عليهم لأنه عارف بدرجة مدارك الحضور ومعرفتهم نقد ما يقول وما بقي من خطب خطباء يونان هو مما هذبته أناملهم ونظرت فيه عقولهم ملاحظين في ذلك أنهم سيخلفون ذلك للأعقاب فلا يليق أن تكون من إلا من أحسن ما يجب.
ولطالما هذب شيشرون خطبه وتمرن على إلقائها حتى أنه في سم الستين قبل أن يقتل كان يمرن نفسه على كيفية الإلقاء. وكان القدماء يعلقون شئناً عظيماً على الإلقاء في المجالس العامة حتى لقد أفرط شيشرون في قوله أن الخطاب العام يتطلب تعبيرات لطيفة منتقاة فقد كتب إلى أحد أصحابه أن الرسالة لا يمكن أن تشبه دفاع المحامي أو خطاباً سياسياً فأنه